تفسير قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)
قال تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [السجدة: ١٦].
هذه الآية فيها أن من صفات المؤمنين أنهم تتجافى جنوبهم، تجافي جنب الإنسان بمعنى: ارتفع جنبه عن فراشه، أو تنحى عن الفراش، فإذا نام لا ينام نوماً طويلاً، وليس ليله كله نوماً وإنما ينام جزءاً ويقوم لله سبحانه وتعالى ما تيسر من الليل.
وقد جاء في قيام الليل من الآيات ما يفيد أنه ينبغي على المؤمن أن يكون بهذه الصفة؛ ليرضي الله سبحانه وتعالى.
ولقد أمر الله نبيه ﷺ بقيام الليل فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: ١ - ٤]، فقام النبي ﷺ حتى تورمت قدماه عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك فرضاً عليه وعلى المؤمنين حتى أنزل الله سبحانه: ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ [المزمل: ٢٠]، فبعد أن أمر بالقيام الطويل أمر بقراءة ما تيسر للإنسان، وصار نافلة بعد أن كان فريضة.
ومن الأحاديث التي جاءت في قيام الليل حديث رواه الترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله ﷺ أنه قال: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم)، وهذا من النبي ﷺ حث وتحريض وإغراء لقيام الليل، وواضح أن القيام أصله: أن تقوم على قدميك واقفاً للصلاة، وإن رخص الله في النافلة أن تصلي قائماً أو قاعداً، سواء كنت قادراً على القيام أو غير قادر، فلك أن تقوم ولك أن تقعد في قيام الليل وفي النوافل، ولكن الأجر العظيم يكون على القيام، ولذلك قال تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: ٢٣٨] أي: قياماً طويلاً بين يدي الله سبحانه وتعالى.
(فإنه دأب -أي: عادة- الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم) أي: يقربكم من الله سبحانه وتعالى، وأقرب ما يكون العبد من ربه سبحانه وهو ساجد، فقيام الليل قيام عظيم، فإذا سجد العبد في جوف الليل الآخر كان قريباً من ربه سبحانه، وكان جديراً بإجابة الله سؤاله.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ومكفرة للسيئات) أي: أن القيام يمحو السيئات، (ومنهاة عن الإثم) أي: يعين الإنسان على اجتناب الآثام والمعاصي.
وروى الترمذي من حديث عمرو بن عبسة أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: (أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر)، فالليل أجزاء: ثلث أول، وثلث أوسط، وثلث أخير، وجوف هذا الثلث الأخير أقرب ما يكون العبد من ربه سبحانه، والرب من عبده سبحانه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) أي: إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فحاول قدر ما استطعت و ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦]، وذكر الله سبحانه بأن تصلي لله سبحانه وتعالى، سواء كانت صلاة طويلة أو صلاة قصيرة، وبأن تذكر الله سبحانه وتعالى فيه، ويدخل تحت الذكر كلما صدقت عليه هذه الكلمة، وسواء كان الشخص جالساً يذكر الله سبحانه بالتسبيح أو بالتهليل أو بالتكبير أو بقراءة القرآن، أو بقراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو بالانشغال بطلب العلم، أو بغير ذلك مما هو ذكر لله عز وجل فكله ذكر، قال صلى الله عليه وسلم: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة -يعني من آخر الليل- فكن)؛ لأنك تكون قريباً من ربك سبحانه.


الصفحة التالية
Icon