تفسير قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)
قال الله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [السجدة: ١٦] أي: هؤلاء المؤمنون بالله سبحانه يسمعون الأذان فيهرعون إلى الصلاة؛ ليخروا لله سجداً، كذلك إذا جاء عليهم الليل ناموا ثم إذا بهم يستيقظون لصلاة الفجر، ويستيقظون قبل ذلك لقيام الليل، فيقومون لله سبحانه مصلين مستمتعين بالعبادة.
قوله: ((تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ)) من الجفوة كأنهم يجافون الفرش عن جنوبهم، يرتفعون عن الفرش، وتنبو جنوبهم عنها، فهم يتجافون عنها.
قوله: ((عَنِ الْمَضَاجِعِ)) مضجع الإنسان مكان نومه، فالمؤمنون إذا جاء الليل ناموا ما كتب لهم، ولكن لا ينامون الليل كله، وإنما يقومون جزءاً من الليل مصلين لله سبحانه وتعالى، فإذا ناموا واستشعروا الراحة في النوم فإنهم يعتبرون بما يكون يوم القيامة، من الراحة الكبرى، الراحة التي تكون في الجنة حيث لا عمل ولا تكليف فيها، فيستعدون لهذا؛ وذلك بأن يتعبوا أنفسهم بالقيام بين يدي الله عز وجل مصلين لله سبحانه، ذاكرين يوم القيامة يوم الوقوف بين يدي الله عز وجل، وهم يطلبون الراحة من رب العالمين في ذلك اليوم، يوم أن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ويطلبون أن يبعد الله عز وجل عنهم نار جهنم يوم القيامة، وأن يخفف عليهم الموقف الطويل والحساب العسير يوم القيامة، فلذلك تتجافى جنوبهم عن المضاجع ويقومون مصلين لله رب العالمين بالليل.
قوله: ((يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)) أي: يدعون ربهم في صلاتهم وفي جميع أحوالهم، فهم يكثرون من الدعاء، ومن ذكر الله سبحانه، ويدعونه في وقت البلاء وفي وقت الرخاء، وهم يدعون الله خوفاً من عقابه وطمعاً فيما عنده سبحانه.
وهذا حال الإنسان المؤمن الذي عرف فضل الله فطمع في فضل الله سبحانه، فهو يعبد ربه خوفاً وطمعاً، رجاء فيما عند الله وهرباً مما عند الله سبحانه وتعالى.
فالمؤمن يطلب الله من فضله؛ لأنه علم أن الله الغني وأنه الكريم والجواد سبحانه، وأن الله رحمن رحيم، والله لا يعظم عليه شيء، فمهما طلب الإنسان ومهما سأل الله، فإنه يعطيه؛ لأنه حيي كريم يستحيي من عبده أن يرفع يديه فيردها صفراً بدون شيء، والله يحب من عبده أن يسأله، فهو يحب الذين يسألون، ويطلبونه سبحانه: يا رب أدخلنا جنتك، يا رب نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، يا رب نسألك الخير، اللهم اغفر لنا ذنوبنا.
إذاً: المؤمنون يسألون الله دائماً؛ لأنهم علموا أن الله يحب من عبده أن يسأله، وعلموا أن الله جواد كريم يحب أن يعطي عبده سبحانه وتعالى، ولما علموا ذلك سألوه من فضله وألحوا عليه في السؤال، فأعطاهم الله سبحانه ما أرادوه، وأمنهم مما يخافون منه يوم القيامة.
إذاً: الخوف والرجاء من الله سبحانه، والمؤمن دائماً في الدنيا خائف من الله راج لله سبحانه، فهم خائفون الخوف الذي لا يؤدي إلى اليأس من الله سبحانه، ولكن الخوف الذي يمنع العبد من المعاصي، كالشرك بالله سبحانه وغيره، والخوف الذي يدفع العبد للعمل الصالح، لا الخوف الذي يؤدي إلى أن ييئس من روح الله: ﴿إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ﴾ [يوسف: ٨٧].
فهم مع شدة خوفهم هم في غاية الرجاء فيما عند الله سبحانه وتعالى، يرجون كرمه وفضله، ويرجون الثواب منه سبحانه، ويرجون مغفرة الذنوب، فهم يخافون من الذنوب وهم يرجون من الله أن يغفر الذنوب سبحانه وتعالى.
ولذلك العبادة لا تكون إلا بذلك: غاية الخوف من الله عز وجل مع غاية الرجاء فيما عند الله سبحانه.
قوله: ((وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) أي: أن العبادة تكون بالدعاء وبالصلاة وبالنفقة، يعني: عبادة بدنية وعبادة مالية، فهم ينفقون في سبيل الله سبحانه، فمهما أعطيناهم من كثير أو قليل فحالهم أنهم ينفقون لله سبحانه وتعالى مما قل أو كثر.