تفسير قوله تعالى: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً)
هذه السورة بدأها الله سبحانه بقوله: ﴿٣الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فاطر: ١] وقدمنا أنه في كتاب الله عز وجل خمس سور افتتحها الله سبحانه وتعالى بهذا الحمد العظيم له وحده، وهي: سورة الفاتحة، وسورة الأنعام، وسورة الكهف، وسورة سبأ، وكذلك هذه السورة سورة فاطر، وكلها سور مكية، وكأن الخطاب موجه للخلق: (اعبدوا الله)، فرفض الكفار أن يعبدوه، وأن يشكروه سبحانه، وأن يحمدوه، فقال: (الحمد لله) أي: هو مستغنٍ عن حمدكم، ومستغنٍ عن شكركم وعبادتكم، فهو سبحانه وتعالى جعل له عباداً يعبدونه من الملائكة، عبدهم لنفسه سبحانه وتعالى، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وخلق من الإنس ومن الجن من هم أولى بعبادته سبحانه وتعالى، وهو غني عن الخلق جميعهم.
وقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [فاطر: ١] الحمد كما قدمنا هو بمعنى: الثناء الجميل والحسن على الله سبحانه وتعالى بأفعاله العظيمة الحسنة الجميلة، فهو يحمد بما يستحقه وبما هو أهل له، ويثنى عليه بجميل فعله سبحانه وتعالى.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [فاطر: ١]، في هذه السورة اسمان له عز وجل: اسمه (الله)، واسمه (الفاطر) و (الله) بمعنى: المألوه، فالله هو المعبود الذي يؤله ويعبد سبحانه وتعالى، فالخلق يعبدونه وحده لا شريك له، فقد أمرهم بعبادته فقال: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [المؤمنون: ٣٢].
وفطر الشيء بمعنى: خلقه، وبمعنى: أوجده على غير مثال سابق، وبمعنى: اخترعه وابتدعه.
فقوله: ﴿فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [فاطر: ١]، أي: أوجدهما ولم يكن قبل ذلك مثال لهما عمل على شكله وعادة الناس في الاختراعات أنهم يقلد بعضهم بعضاً، فهذا صنع شيئاً والثاني طور هذا الشيء، والثالث طوره إلى شيء آخر، فالطائرة التي تطير كيف وصلوا إلى صناعتها؟ بدءوا يفكرون كيف تطير هذه الطيور، والطيور من خلق الله سبحانه وتعالى، فجاء العباس بن فرناس وعمل له جناحين، وحاول أنه يطير من على الجبل بالجناحين، فوقع على الأرض، والذي بعده طور هذا الشيء، والثاني يطور ويطور، إلى أن اخترعوا الطائرة والصاروخ.
فالإنسان يخترع، لكنه يقلد من كان قبله أو يقلد خلقاً خلقه الله سبحانه وتعالى، لكن الله حين أوجد السماوات والأرض لم يكن قبلها سماء يخلق مثلها، ولم يكن قبل الأرض أرض أخرى يخلق مثلها، ولكن هو الذي فطرها، أي: أنشأها أول مرة ولم يكن لها مثال سابق قبل ذلك.
فالله عز وجل فاطر السماوات والأرض، أي: خلقها على غير مثال سابق، وابتدع إنشاءها، وأتقن صنعها، فهو فاطر، أي: خالق هذه الأشياء التي ليست على مثال سابق قبل ذلك.
يقول عبد الله بن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض، أي: ما معنى فاطر السماوات الأرض؟ لأن فاطر معناه: خالق، وخالق تحتمل معنى الخلق، وتحتمل معنى التقدير، لكن هناك فرق بين فاطر وخالق.
فهنا ابن عباس رضي الله عنهما يقول: ما كنت أعرف معنى هذه الكلمة إلى أن جاء أعرابيان يختصمان إليه في بئر، فقال أحد الأعرابيين: أنا فطرتها.
فتبين لـ ابن عباس الآن معنى فطرها، أي: أنا حفرتها وأوجدتها قبل أن تكون قبل ذلك.
فقول الأعرابي: أنا فطرتها، أي: أنا ابتدأتها، وعلى هذا فمعنى: (فاطر السماوات والأرض)، أي: الذي ابتدأ خلق السماوات والأرض على غير مثال سابق.
وقوله: ﴿جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾ [فاطر: ١]، الله عز وجل يذكر الآيات العظيمة، مثل خلق السماوات وخلق الإبل وغيرها، كما قال سبحانه: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾ [الغاشية: ١٧ - ١٨]، فتتفكر في هذه السماء العظيمة، وتتفكر في الكون وفي الخلق الذي أمامك، فإن الذي خلقه هو الله سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: ١٩٠].
ولما نزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [آل عمران: ١٩٠] التي في آخر سورة آل عمران قال النبي ﷺ في صبيحة نزولها: (لقد أنزل عليّ الليلة آيات، ويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها، ويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها)، فلما يقرأ الإنسان: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [آل عمران: ١٩٠] لا يجعل الآيات تمر هكذا على أذنه كأي شيء يسمعه، ولكن عليه أن يتدبر ويتفكر في خلق هذه السماوات، ويتفكر في السماء التي لا يصل إليها أحد أبداً، وفي النجوم التي في السماء، يقولون: إن أقرب نجم من هذه المجموعة إلينا يبعد عنا أربعة ونصف مليون سنة ضوئية، فمن يستطيع أن يصل إلى هذه المسافة؟ وكيف يصل إلى هذه المسافة بشر؟ مستحيل أن يصل إنسان إلى نجم من هذه النجوم، فإنه يريد أعماراً حتى يصل إليها، والبشر إنما وصلوا إلى ما حوال الأرض في فلك الأرض نفسها، والمجموعة الشمسية التي حول الشمس منها الأرض، ومنها الزهرة ومنها القمر ومنها المريخ وغيرها من المجموعة التي تدور في فلك واحد قريبة من بعضها، فقد يصل الإنسان إلى ذلك، أما أنه يصل إلى نجم من النجوم فلا، بل مستحيل أن يصل إليه.
وهذه النجوم البعيدة جداً في السماء جعلها الله سبحانه زينة للسماء الدنيا تحت السماء الدنيا، والإنسان لا يصل إلى هذه السماء، والسماء فيها مجرات، وفيها كواكب وشموس وأقمار، والمجرة التي نحن فيها تسمى بمجرة درب التبانة؛ ويشبهونها بالتبن، لأن منظرها مثل التبن وهذه المجرة عدد الكواكب التي فيها والأقمار والشموس مليارات، والأرض كوكب من الكواكب التي فيها، وهي أصغر الكواكب فيها، وهناك كواكب أخرى كثيرة أكبر منها بكثير.
هذه المجرة التي نحن فيها التي اطلع العلماء على وجه واحد فقط منها، وهو الوجه المواجه للأرض فقط، أما الذي خلفها والذي تحتها فإلى الآن لم يعرفوا عنه شيئا، يقولون: الذي قدرنا أن نحصي منها كذا وكذا مليار من الشموس ومن الأقمار، أي: في هذا الجزء الذي أطلعهم عليه ربنا، وكل يوم يخترعون شيئاً ينظرون به إلى هذه الأشياء، فتجدهم يقولون: اكتشفنا اليوم أن هذا نجم على بعد كذا سنة ضوئية، واكتشفنا نجماً آخر على بعد كذا، بل نقرأ في الجرائد أنهم عملوا في أمريكا تلسكوباً جديداً المرآة التي تتبعه تبلغ حوالي أربعين متراً أو نحو ذلك، وفيها أشياء يستطيع الشخص أن ينظر بها على بعد مئات الكيلو مترات، ولو أن شمعة تحترق على بعد كذا مليون كيلو متر لرأوها وهي تحترق بهذا التلسكوب، هذا التلسكوب صنعوه من أجل أن ينظروا به في خلق الله سبحانه وتعالى، ويجدون العجب العجاب، يجدون الكون الذي لا يتناهى، ويجدون أن الكون ممتلئ بالشموس والأقمار والنجوم، وكل شيء في فلكه يدور ويجري ليس فيها شيء يصطدم في شيء آخر، بل يسيرها الله سبحانه وتعالى في دقة متناهية، ويجدون أشياء عجيبة جداً، فالإنسان يتفكر في هذه الأشياء العظيمة، من الذي دبر أمرها؟ ومن الذي أوجدها؟ ومن الذي جعلها في هذا المدار التي هي فيه تدور ولا يرتطم بعضها ببعض؟ إنه الله سبحانه وتعالى الذي قال: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: ١٩٠].
فالله سبحانه وتعالى خلق هذه الأرض وجعلها للإنسان، وعمرها له، وجعلها صالحة لأن يعيش عليها، وخلق له فيها الماء، وأخرج له فيها المرعى، وجعل له طعامه منها، وجعل له حيوانات يحمله عليها، ودبر أمرها، وما من شيء إلا والله عز وجل يعلم عنه كل شيء، كما قال عز وجل: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ [الرعد: ٨ - ٩]، وقال: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: ٥٩] فكل شيء عند الله في كتاب مبين، فعندما تتفكر في النمل الذي يسير في الأرض تقول: كم نملة يا ترى في هذه الأرض؟ ولماذا خلقها الله سبحانه؟ والنبي ﷺ نهى عن قتل هذا النمل الذي أوجده الله سبحانه على الأرض.
فالإنسان يتفكر، وتفكير الإنسان قاصر؛ لأنه ينظر من جهة واحدة فقط، لكن لم يحط بكل شيء علماً.
فالله بديع السماوات والأرض، وفاطر السماوات والأرض، جعل لكل شيء سبباً من الأسباب، فتجد النمل الذي تتأذى منه يحبه أناس آخرون، ويبحثون عنه، ففي بعض الأماكن مثلاً: يذهبون إلى الغابة ليأتوا بالنمل، ويقطعون أشجاراً من الغابة ممتلئة نملاً فيأخذونها فوق الجمال ويبيعونها في السوق، فيشتريها أناس من أصحاب البساتين التي فيها الموالح فتتسلط على فطريات معينة ومكروبات معينة، والنمل فقط هو الذي يقدر أن يقضي عليها، ولم لم يستخدموا النمل لهلك محصولهم، وهذا شيء عجيب جداً! لقد خلق الله النمل، وعرفه كيف يجمع غذاءه، فترى كل نملة من النمل تأتي إلى الحبة الموجودة في الأرض، فتخاف أن يأتي عليها الشتاء وتخاف أن تزرع هذه الحبة، فتأكلها من المكان الذي تنبت منه؛ من أجل أن تفسد الحبة ولا تزرع بعد ذلك، فالله سبحانه هو الذي أعطاها هذا التفكير لكي تصنع ذلك، قال عز وجل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ