خصائص سورة الزمر
سورة الزمر من السور المكية، وتتميز هذه السورة العظيمة بالخصائص المكية، وهذه السورة نزلت بعد سورة سبأ وقبل سورة غافر، هذا في ترتيب النزول، وحسب ترتيب نزول السور على النبي ﷺ تعد هذه السورة هي التاسعة والخمسون، يعني: في ترتيب عد نزول السورة على النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: حين نقول: ترتيب النزول هذا شيء، وترتيب المصحف شيء آخر، فترتيب المصحف ليس على ترتيب نزول السور، ولا على ترتيب نزول الآيات، فقد تنزل السورة قبل السورة، إذْ السورة موضعها في كتاب الله عز وجل ليست على ترتيب نزولها، إذاً: ترتيب السور في القرآن توقيفي على ما قرأه النبي ﷺ مع جبريل في آخر عرضة عرضها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الترتيب الذي عندنا في كتاب الله سبحانه وتعالى، فكانت تنزل سورة، وتنزل آيات، فيقال له: ضعها في موضع كذا من سورة كذا، وتنزل آيات، فيقول: ضعها في موضع كذا من سورة كذا، فلما أتم الله عز وجل هذا القرآن العظيم عرضه جبريل مع النبي ﷺ مرتين في آخر عرضة عرضها عليه، وكان ذلك في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، في آخر رمضان صامه النبي ﷺ وقامه فكان على هذا الترتيب الذي بين أيدينا.
سورة الزمر سميت بسورة الزمر؛ لأن (كلمة (زمراً) ذكرت فيها.
وذكر الإمام القرطبي وتبعه غيره ممن بعده من المفسرين أنها تسمى بسورة الغرف أيضاً لكون هذه الكلمة ذكرت فيها فسميت بذلك، وهذا من قول وهب بن منبه.
والتسمية بالزمر كانت من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت السيدة عائشة تخبر أن النبي ﷺ كان يقرأ هذه السورة قبل نومه، فجاء في سنن الترمذي من حديث أبي لبابة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: (كان النبي ﷺ لا ينام على فراشه حتى يقرأ بني إسرائيل والزمر) حتى يقرأ بني إسرائيل، أي: سورة الإسراء، فهي تسمى بسورة بني إسرائيل، وبسورة سبحان؛ لأنها بدأت بذلك، فكان إذا أراد أن ينام ﷺ وهو على فراشه قرأ سورة سبحان، أي: سورة الإسراء، وقرأ أيضاً سورة الزمر صلوات الله وسلامه عليه، وليس دائماً ولكن أحياناً كان يقرأ هذا، وأحياناً كان لا ينام حتى يقرأ سورة: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [الملك: ١]، ويقرأ سورة: ﴿الم * تَنزِيلُ﴾ [السجدة: ١ - ٢] إذاً: كان أحياناً يقرأ هذه، وأحياناً يقرأ هذه، وجاء عنه أنه كان يقرأ سوراً قبل أن ينام منها: المسبحات يعني: كل السور التي بدأت بسبحان، سبح، ويسبح.
إذاً: سبع سور كان يقرؤها النبي ﷺ قبل أن ينام ويخبر أن فيها آية من أعظم الآيات.
هذه السورة مكية، وفيها خصائص السور المكية، وهي: أمر ترسيخ العقيدة في القلوب؛ لأن القرآن المكي ليس فيه أحكام كثيرة، فالأحكام كانت في المدينة، ففي المدينة نزلت الأحكام الشرعية والفقهية على النبي صلى الله عليه وسلم، في العبادات والمعاملات وفي الجهاد في سبيل الله عز وجل، هذه كلها في المدينة، لكن في مكة كان الاهتمام بالتربية، بأن ينشأ المسلمون على العقيدة، ويمتلئ القلب بنور الدين وبنور الإيمان، فهنا ترسيخ أمر العقيدة، ونفي الشرك عن القلوب.
إذاً: هنا كانوا قريب عهد بشرك وهم في مكة، فكان القرآن ينزل عليهم ليعلمهم توحيد الله سبحانه، ويرسخ ذلك في قلوب المؤمنين، فأغراض هذه السورة هي أغراض السور المكية، وترتيب أمر التربية الأهم ثم ما هو مهم بعد ذلك، فأهم الأشياء نفي الشرك من قلوبهم، وإثبات وتقرير التوحيد في القلوب، فبدأت هذه السورة بالإشارة تنويهاً إلى شأن هذا القرآن العظيم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم.
إذاً: القرآن العظيم نزل من عند الله، وأشار في مواضع من هذه السورة العظيمة إلى هذا القرآن، سواء قال: القرآن، أو قال: الكتاب، أو أشار إليه بالضمير في مواضع، يشير إلى هذا القرآن كيف يتعامل معه المؤمنون حين يسمعون هذا القرآن، قال تعالى: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٢٣] فقد بدأ الله هذه السورة بالإشارة والتنويه إلى عظمة هذا القرآن الذي نزل من عند الله سبحانه، وفي هذه السورة إثبات تفرد الله سبحانه وتعالى بالألوهية، وأنه وحده الذي يستحق ذلك، وإبطال ما كان عليه المشركون من شرك بالله سبحانه وعبادة غيره، وإبطال ما يتعللون به من كلام فارغ باطل حين يسألون: لم تعبدون هذه الأصنام من دون الله؟ فيقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: ٣] فيكذبهم الله عز وجل فيما يقولون في هذه السورة وفي غيرها.
كذلك فيها نفي ما كانوا عليه من ادعاء أن الله عز وجل اتخذ الولد، تعالى الله سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، ففيها نفي هذا الشرك بالله سبحانه وأن يكون يتخذ ولداً، قال تعالى: ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ [الزمر: ٤] حاشا له أن يكون له الولد سبحانه! ولكنه الله الذي خلق كل شيء، ولو أراد أن يكون له ولد سبحانه وتعالى لاصطفى من خلقه ما يشاء ووصفه بذلك، أما أنه يتناسل كالبشر حاشا له سبحانه وتعالى، فالبشر بعجزهم يحتاجون لبقاء نوعهم في هذا الكون، فيحتاجون لذلك، فالرجل يحتاج للمرأة، والاثنان يحتاجان للولد، لأن هذا يصير شيخاً، وهذه تصير عجوزاً، فتقل القوة والقدرة، وهذا يموت وتموت هذه، فيبقى النسل امتداداً للوالد وللوالدة، ولكن الله سبحانه هو الحي الذي لا يموت، والباقي أبداً سبحانه وتعالى، من الأزل وإلى الأبد سبحانه وتعالى، لا يفنى ولا يبيد ولا يكون إلا ما يريد سبحانه وتعالى، فلذلك الله هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ولو كان له ولد سبحانه وتعالى لكان فيه صفات الربوبية وصفات الإلهية، ولكان محتاجاً أن يكون له ولد، ويعجز هذا الأب طالما أنه احتاج إلى أن يكون له ولد في يوم من الأيام، فالله لا يحتاج إلى شيء، ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى، والذي يحتاج إلى الولد هو المخلوق، أما الخالق فهو متعال عن ذلك سبحانه.
في هذه السورة الاستدلال على وحدانية الله سبحانه، وأنه الواحد سبحانه وتعالى الذي لا شريك له، ويذكر لنا الدلائل على ذلك، بأنه خلق السموات والأرض سبحانه وتعالى، وخلق الإنسان من هذه النطفة، وأنزل لنا سبحانه وتعالى ثمانية أزواج من هذه الأنعام.
كذلك يذكر لنا التطور العجيب في خلق الإنسان من نطفة أمشاج سبحانه وتعالى، وطوره إلى أن كان جنيناً في بطن أمه ونزل طفلاً، ثم صار بالغاً، ثم صار شيخاً، فأطوار خلق هذا الإنسان ينبهنا على أن هذا الإنسان كان ضعيفاً ويصير في النهاية إلى الموت بعدما يكون شيخاً كبيراً.
أيضاً: فيها الاستدلال من فعل هؤلاء المشركين على حاجتهم إلى الله سبحانه وتعالى، طالما أنت محتاج إلى الله تقول: يا رب يا رب، قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ [الزمر: ٨]، فالإنسان محتاج إلى الله سبحانه، يجأر إليه في وقت الضر فيقول: يا رب يا رب، فطالما أنك محتاج إلى الله فلماذا لا تعبده في كل وقت؟ وما الداعي لأن تشرك به سبحانه وتعالى؟ كذلك فيها الدعوة إلى التدبر في هذا القرآن، قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٢٣] هذه دعوة للتدبر في هذا القرآن، والله نزل أحسن الحديث؛ إذ كانوا يسمعون الأحاديث من العرب، كانوا يسمعون أخبار الفرس وغيرهم والنوادر والحكايات، وكانوا يقولون الأشعار، فيخبرهم الله أن أحسن حديث عندكم هو كتاب الله سبحانه وتعالى، نزله الله يشبه بعضه بعضاً في الحسن والإتقان والإحكام، ليس فيه أننا نقول: هذه الآية محكمة ومتقنة وهذه الآية ليست كذلك، بل كل القرآن على هذا المستوى الراقي العالي المعجز للخلق جميعهم، فيتحدى الله خلقه بالقرآن كله، أو ببعض هذا القرآن أن يأتوا بسورة من مثله فلا يستطيعون، فهو متشابه في الحسن وفي الجمال وفي الإتقان، وفي الإحكام وفي الإعجاز كله يشبه بعضه بعضاً في ذلك.
وهو مثانٍ يكرر الله عز وجل فيه التثنية، ويكرر فيه الحكم والمواعظ والقصص على نحو عجيب فريد، فتسمع القصة في سورة فتعجب لجمالها، فتسمعها في سورة أخرى فتتعجب كيف يتنوع الأمر والسورة والقصة واحدة مذكورة هنا ومذكورة هنا، ومذكورة هنا! وفي كل موضع توافق السورة ولا تخالفها في هيئتها وتجد فيها من الحكم الشيء العظيم.
كذلك في هذه السورة تنبيه الناس إلى كفرهم بالله سبحانه، وعدم شكرهم نعمته، يعطيهم الله النعم فلا يشكرونه سبحانه وتعالى، فينبههم إلى أن يشكروا الله؛ لأن الإنسان الذي يشكر الله يشكر نفسه، والنفع يعود إليه، والضر ليس على الله وإنما ضره عليه.
كذلك فيها المقابلة بين حال أهل التوحيد، وبين حال أهل الشرك، كيف أن أهل التوحيد استحقوا دخول الجنة، قال تعالى: ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ [إبراهيم: ٢٣]، وأدخل الذين كفروا نار جهنم والعياذ بالله، هذا مآل المؤمنين، وهذا مصير الكافرين.
كذلك فيها التحذير مما حل بالأمم السابقة، وهذه من خصائص السور المكية، فالله سبحانه يحذر الناس أن يحل بهم من العقوبات ومن المثلات ما حل بالذين


الصفحة التالية
Icon