تفسير قوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)
قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: ٣].
قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ﴾ [الزخرف: ٣]، هذا جواب القسم، فأقسم ربنا سبحانه وتعالى بالكتاب المبين: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: ٣]، أي: جعلنا هذا القرآن العظيم بلسانكم: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٥]، واللغة العربية أعظم اللغات، وأفصح اللغات، وأبلغ اللغات، وأجمل اللغات، فنزل القرآن بهذه اللغة العربية، نزل من السماء من عند رب العالمين، نزل بسفارة أعظم الرسل من الملائكة وهو جبريل، على أفضل رسل الله في الأرض محمد صلوات الله وسلامه عليه، في أشرف البقاع وهي مكة، وفي أفضل الزمان وهو رمضان، فكان القرآن أعظم ما نزل من السماء، في أعظم البقاع، على أعظم وأفضل الرسل صلوات الله وسلامه عليه، في أفضل الشهور وهو شهر رمضان: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ [الدخان: ٣].
قال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف: ٣]، و (جعل) لها معانٍ كثيرة، فهي هنا بمعنى: سماه ووصفه وقاله وبينه سبحانه وتعالى، فالله جعله قرآناً عربياً، ولو شاء لجعله قرآنا أعجمياً، فهو سبحانه الذي خلق العباد، وخلق اللغات، وخلق ألسنة العباد، وخلق عقول العباد، فيفهمون ما يريد الله عز وجل منهم، فلو شاء لجعله قرآناً أعجمياً، ولكن أنزله بلسان عربي مبين على النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ومثل (جعل) بمعنى: سمى ووصف قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ﴾ [المائدة: ١٠٣] أي: ما وصف ولا سمى هذه الأشياء، ولكن أنتم الذين افتريتم ذلك، وأنتم الذين سميتم ذلك.
وكذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ [الحجر: ٩١]، ليس معناه: الذين خلقوا القرآن عضين، لا، وإنما معناه: الذين اختلفوا وتشاكلوا في القرآن، فكل منهم يقول فيه بشيء، فهذا يقول: سحر.
وذاك يقول: كهانة.
وغيرها من الأكاذيب والأوصاف التي يصفون بها القرآن، فهذا من معاني جعل، وهو سبحانه الذي أراد أن يبين لنا أن هذا القرآن عربي، تكلم به ربنا سبحانه وتعالى، فأوحاه إلى نبينا محمد ﷺ بواسطة جبريل عليه السلام، فنزل به بهذا اللسان العربي على النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وكلمة: (قرآن) من القرء، وهو الجمع، فسوره مجموعة، وهو الذي يقرأ ويتلى، فالقرآن يتلى، ويجمع في صحيفة، ويجمع في الصدور.
قوله: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف: ٣] هي قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (قراناً عربياً) يعني: يقرأ بالألف بدل الهمزة، وإذا وقف عليها حمزة قرأ كـ ابن كثير: (قراناً).
قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: ٣] أي: عن ربكم سبحانه وتعالى ما يقوله لكم، وتفهمون هذا القرآن الذي هو بلسانكم، وكما ذكر الله عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤]، فكل رسول أرسله الله عز وجل إلى قوم أرسله بلسانهم، حتى يبين لهم، وهذا القرآن العظيم نزل بلسان عربي، نزل على النبي ﷺ في مكة حتى ينتشر إلى العالم كله بهذا اللسان العربي المبين.
قوله: فإذا عقلتم عن الله سبحانه ما أراد منكم، وما أراد بكم عملتم بما فهمتم، ولذلك السور المكية يخاطب الله عز وجل بها عقول العباد، وكأنه يقول لهم: أين عقولكم حين تعبدون هذه الأصنام من دون الله؟ فمن خصائص هذه السورة كغيرها من السور المكية، تقرير أمر العقيدة في قلوب الناس: عقيدة الإيمان بالله وحده، ونفي الشرك عن الله سبحانه، عقيدة الإيمان برسل الله وملائكة الله، والإيمان بما أنزل الله عز وجل من السماء، وإعمال العقول فيما يحدثونه من بدع، وفيما يقعون فيه من كفر وشرك، ولذلك يخاطب الله عقولهم حين يقول لهم سبحانه: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ [الزخرف: ٥]، أي: أنترككم وأنتم في إسرافكم وكفركم وشرككم، على ذلك حتى نهلككم بالعذاب من غير ما نقيم عليكم الحجة؟ لا، حاشا لله عز وجل، فهو القائل: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥]، فأنزل الكتاب وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم، ليهدي الخلق إلى دين الله، حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.


الصفحة التالية
Icon