تفسير قوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً)
قال تعالى: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ [الزخرف: ٥].
ثم قال لعباده: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ﴾ [الزخرف: ٥] أي: هل يعقل؟ أننا نخلقكم ثم نترككم سدى وعبثاً، ونهملكم من غير ما ننزل عليكم كتاباً نبين لكم فيه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [هود: ٥٠].
والذكر هنا: التذكير، والضرب بمعنى: الإعراض، أي: أفنعرض عنكم؟ قوله: (صفحاً) تقول: أعرض عن فلان صفحاً.
أي: أعطاه جنبه ولم يعطه وجهه.
وكأن المعنى هنا: أفنعرض عنكم ونترككم فيما أنتم فيه حتى نأخذكم ونعذبكم، فيكون لكم علينا حجة، فتقولون: لم تبعث إلينا رسولاً، لم تنزل علينا كتاباً؟ لا، وإنما لابد أن نبين لكم، وكذلك هل نخلقكم ونترككم هكذا، تعيشون وتموتون من غير حساب؟ لا، وإنما لابد من الحساب، فلن يضرب عنهم الذكر صفحاً، بل يذكرهم ويعظهم، ثم يقبضهم ويحاسبهم، فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء قال: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ﴾ [الزخرف: ٥]، ومعنى: (أن) بسبب، أي: بسبب أنكم قوم مسرفون، أنترككم في إسرافكم؟ لا، فرحمة الله عز وجل عظيمة وواسعة، والعباد كفروا بالله، والخالق سبحانه مقت العباد فيما هم فيه، لذا جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن عياض بن حمار أن النبي ﷺ قال: (إن الله نظر إلى أهل الأرض جميعهم فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب).
فإذا كان العباد على شركهم بالله سبحانه، وهو يمقتهم على ما هم فيه من كفر وإشراك به، فهل يعرض عنهم، ويتركهم حتى يعذبهم؟ لو فعل ذلك سيكون قد ظلمهم، ولكن لأن رحمته وسعت كل شيء، أبى إلا أن ينزل عليهم كتاباً يبين لهم، ويرسل لهم رسولاً يبين لهم حتى لا يكون لهم على الله حجة.
قوله: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ [الزخرف: ٥]، فيها قراءتان: الأولى: قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم ويعقوب بفتح الهمز: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ [الزخرف: ٥]، والخمسة الباقون يقرءون بكسر الهمز: ((إِن كنتم قوماً مسرفين)).
فهل إن كنتم كذلك نعرض عنكم ونترككم على ذلك؟ لا، فرحمتنا أبت إلا أن نخبركم ونعظكم ونعلمكم، فإذا أبيتم فلكم العذاب عند الله سبحانه وتعالى.


الصفحة التالية
Icon