تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: ٢٦ - ٣٢].
لما أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في الآيات السابقة عن حال الكفار وأنهم مقلدون لآبائهم الذين ضلوا وعبدوا غير الله سبحانه وتعالى قالوا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٢].
قال الله سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٣].
أي: أن عادة الكفار في كل زمان إذا أرسل الله عز وجل إليهم من يدعوهم إلى توحيد الله، ويأمرهم بأن يطيعوا الله وينهاهم عن الشرك بالله كانت المقالة التي قالها الأولون، وتبعهم عليها الآخرون: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٣].
ثم يقول: كل نبي وكل رسول لقومه: ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ﴾ [الزخرف: ٢٤].
أو قال الله عز وجل آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿قل أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ﴾ [الزخرف: ٢٤].
فسيجيبون: ﴿إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [الزخرف: ٢٤].
كأنهم يقولون: مثلما أنت على دين نحن كذلك على دين.
فإن سئلوا من أين هذا الدين الذي عندكم؟ يقولون: وجدنا آباءنا على أمة.
فإن قيل: ما الدليل على أن آباءكم كانوا على هدى وكانوا على أمة؟ هل عندكم كتاب من عند الله؟ هل عندكم أثارة من علم بما تقولون؟ فيبهتون ولا يستطيعون الرد ويكون جوابهم التقليد ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٣].
ويقولون لرسولهم عليه الصلاة والسلام: ﴿إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [الزخرف: ٢٤].
قال الله عز وجل: ﴿فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ [الأعراف: ١٣٦] إذاً استحق هؤلاء أن ينتقم الله عز وجل منهم وأن ينتصر لدينه ولرسله عليهم الصلاة والسلام فانظر كيف كان عاقبة المكذبين؟ إن عاقبتهم في الدنيا الهلاك، وفي الآخرة النار.
ولكن من هؤلاء الآباء الذين قلدوهم؟ الكفار من قريش كانوا يفتخرون بأن أباهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنهم من ذرية إسماعيل عليه السلام.
فيقال: ما الذي كان يفعله إبراهيم؟ وكيف كان يعبد الله سبحانه؟ وهل أشرك بالله سبحانه أم أنه جاء بالتوحيد الخالص؟ فإذا أردتم التقليد فليكن اتباعكم لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلذلك ذكره سبحانه وتعالى بعدما ذكر قولهم السابق، وكأنه يقول: هذا إبراهيم عليه السلام من آبائكم لم تركتم اتباعه واتبعتم غيره؟! قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٦] وإذ هنا ظرفية زمانية بمعنى: حين، فكأنه قال: واذكر حين قال إبراهيم ذلك وتبرأ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من قومه بقوله: إنني براء، أي: أنا بريء، وبراء مصدر، والمصدر إذا وصف به لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ولكن يكون على صيغة المصدر.
فالواحد يقول: براء وكذلك الإثنان، والجمع وإنما يتغير الضمير فيقول الواحد: أنا والجمع: إننا.
وبراء بمعنى: أتبرأ أعظم البراءة إلى الله سبحانه وتعالى مما تقعون فيه من الشرك بالله سبحانه.
وقد قال إبراهيم عليه السلام البراءة لأبيه ولم يجامله ولقومه ولم يخش أحداً إلا الله.
ثم قال: ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: ٢٧] وهذا استثناء قد يكون متصلاً وقد يكون منقطعاً، وعلى كلتا الحالتين فالمعنى صحيح.
فإذا جعلنا الاستثناء متصلاً صار المعنى: أنتم تعبدون الله وتشركون به فأنا بريء من كل هذه الآلهة إلا الله.
وإذا جعلناه منقطعاً فيكون المعنى أو التقدير: أنا بريء من كل ما تعبدونه، ولكن أعبد الله وحده لا شريك له، فتضمن (إلا) معنى (لكن).
وعلى كلا الحالين فإبراهيم عليه السلام يقول: أنا أعبد الله فقط، سواء عبدتم الله وغيره، أو عبدتم غير الله فأنا متبرئ مما تفعلون، فالله لا يقبل أن يعبد مع غيره وإنما يعبد وحده ويقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).
ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له وحده لا شريك له.