تقدير الأرزاق على العباد رحمة بهم
قال تعالى: ﴿وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الزخرف: ٣٣]، أي: على الكفر، والمعنى: لولا أن يصير الناس كلهم كفاراً لأعطى الله الكافر كل شيء في هذه الدنيا، وهذا لبيان حقارة الدنيا، فإنه إذا أعطاها لمن لا وزن له ولا قيمة له عنده، فهي لا وزن لها أيضاً فمن رحمة الله سبحانه وتعالى، أنه لم يفتن عباده بذلك فيعذبهم، إذ أن الله إذا أراد أن يعذب الجميع؛ فتح عليهم الدنيا، حتى إذا أخذوها وظن أهلها أنهم قادرون عليها، ﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ﴾ [يونس: ٢٤]، ولكن رحمة الله عظيمة واسعة، فقد أراد أن يكون من العباد مؤمنون فيدخلهم الجنة سبحانه وتعالى، وأراد أن يكون فيهم الكفار الذين يستحقون عدل الله وعذاب الله سبحانه وتعالى.
قوله: ﴿لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ﴾ [الزخرف: ٣٣]، أي: لأعطيناهم غنىً عظيماً، حتى يجعلون سقوف بيوتهم من فضة وفي قوله تعالى: ﴿لِبُيُوتِهِمْ﴾ [الزخرف: ٣٣]، قراءتان: فتقرأ البيوت بالضمة وبالكسر فيقرؤها أبو عمرو، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوب بالضم: ﴿لِبُيُوتِهِمْ﴾ [الزخرف: ٣٣]، وباقي القراء كـ ابن كثير، وشعبة عن عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف يقرءونها بالكسر ﴿لِبيوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ﴾ [الزخرف: ٣٣].
وكذا قوله تعالى: ﴿سُقُفًا﴾ [الزخرف: ٣٣] فيه قراءتان: الأولى: قراءة نافع، وابن عامر، والكوفيين، على الجمع: ﴿سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ﴾ [الزخرف: ٣٣]، والثانية: لباقي القراء ﴿سَقفًا مِنْ فَضَّةٍ﴾ [الزخرف: ٣٣]، على الإفراد، والمعنى: سقفاً واحداً على جميع البيوت، وعلى قراءة الجمع سُقُفاً أي: لكل بيت سقفاً من فضة.
قوله: ﴿وَمَعَارِجَ﴾ [الزخرف: ٣٣]، المعارج الدرجات والمعنى: درجات يرقون ويصعدون عليها، ويشمل المعنى كذلك أن نجعلهم أصحاب مبانٍ عالية ومنابر مرتفعة.
قوله: ﴿عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ [الزخرف: ٣٣]، أي: يرتفعون إلى سطوحها مستمتعين بما يملكون من ذهب وفضة.
قوله: ﴿وَلِبُيُوتِهِمْ﴾ [الزخرف: ٣٤]، أي: ولجعلنا أيضاً: ﴿لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ﴾ [الزخرف: ٣٤]، أي: أبواباً من هذه الزخارف من الفضة ومن الذهب، ولجعلنا الأسرة التي يتكئون عليها من ذهب ومن فضة أيضاً.
ويدل إعطاء الله الكافر هذه المتع على أن هذه المتع حقيرة، ولولا أنها حقيرة لما أعطاها للكافر وحرم المؤمن، أما جزاء المؤمن فقد وصفه الله فقال: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ [محمد: ١٥]، وزد على ذلك أن لهم المغفرة والفضل والرضوان من الله، قال تعالى: ﴿وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [محمد: ١٥] فهم ليسوا كمن متعه الله عز وجل متاع الحياة الدنيا ثم يكون يوم القيامة من المحضرين إلى عذاب الجحيم، فلا يستوي الإيمان مع الكفر.
قوله تعالى: ﴿وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ﴾ [الزخرف: ٣٤]، أي: يجلسون متكئين على الأسرة، وسرير الإنسان ما يجلس عليه، أو ما ينام عليه، وكأن هؤلاء غاية في الترفيه، فالله يرفعهم ويعطيهم أسرة عليها يجلسون ويتكئون، ويفتخرون وهم جالسون عليها.
وفي قوله تعالى: ﴿وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ﴾ [الزخرف: ٣٤]، قراءتان: الأولى قراءة الجمهور ((يَتَّكِئُونَ))، والثانية: قراءة أبي جعفر (يتكون).
قوله تعالى: ﴿وَزُخْرُفًا﴾ [الزخرف: ٣٥]، الزخرف: الذهب، والمعنى يعطيهم الله ذهباً وزينة وزخارف ونقوشاً يستمتعون بها في الدنيا.
قوله: ﴿وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ﴾ [الزخرف: ٣٥]، أي: كل هذا الذي نعطيه ﴿مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الزخرف: ٣٥]، والحياة الدنيا لا قيمة لها، إذ هي أشياء حقيرة زائلة وهم كذلك زائلون، فلولا أن يفتن المؤمنون، ويقتدوا بهؤلاء الكافرين لجعلنا ذلك لهؤلاء.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الزخرف: ٣٥]، هذه قراءة عاصم، وقراءة هشام عن ابن عامر، وقراءة حمزة أيضاً، وقراءة ابن وردان عن أبي جعفر، وقراءة باقي القراء: ﴿وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الزخرف: ٣٥]، والمعنى: ما هذا إلا متاع في الحياة الدنيا، أسلوب قصر معناه: مهما استمتعوا فهو في الدنيا فقط، ثم يصيرون إلى العذاب بعد ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [الزخرف: ٣٥]، العندية هنا ليست عند الناس، بل عند الله، فالعاقبة للمتقين، أي: لأهل التقوى، ولأهل الإيمان، والإحسان، والآخرة يحتفظ بها سبحانه ويعدها لهم سبحانه وتعالى، ﴿وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: ٣٥]، أي: أن الجزاء الحسن والعاقبة الجميلة لمن اتقوا ربهم سبحانه وتعالى وخافوا من عذابه.
ولأن الدنيا ليس لها قيمة، فقد وبخ الله عز وجل من يحرص عليها، ومن يطمع فيها، وبمعنى ما ذكره الله سبحانه وتعالى في ذم الدنيا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر).


الصفحة التالية
Icon