تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلةٍ مباركة إنه هو السميع العليم)
عبر هنا بنون العظمة عن عظمته سبحانه في إنزال القرآن، وأنه نزل من السماء إلى الأرض بأحكام عظيمة، فقال سبحانه: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ [الدخان: ٣] أي: أنزله الله عز وجل مع جبريل على النبي صلوات الله وسلامه عليه، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ [الدخان: ٣] الليلة المباركة هي ليلة القدر، ومعلوم أن القرآن نزل على النبي ﷺ خلال ثلاث وعشرين سنة، ولم ينزل مرة واحدة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن المعنى هنا كما جاء عن ابن عباس بإسناد صحيح: أن القرآن نزل من السماء من عند الله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك مع جبريل على النبي ﷺ خلال ثلاث وعشرين سنة، فأول ما نزل إلى السماء الدنيا من عند رب العالمين سبحانه في هذه الليلة وهي ليلة القدر، ثم أنزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه: فكان أول ما نزل عليه ﷺ ونبئ به هو: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: ١]، وأول ما أرسل به صلوات الله وسلامه عليه ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ﴾ [المدثر: ١ - ٢]، فنبئ باقرأ، وأرسل بالمدثر صلوات الله وسلامه عليه.
والليلة المباركة هي الليلة العظيمة البركة، وهي ليلة القدر كما بين الله سبحانه في سورة القدر بقوله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: ١]، وبهذا يتبين أن القول بأن هذه الليلة هي ليلة النصف من شعبان ليس صحيحاً وإن ذكره كثير من المفسرين، ولم يصح عن النبي ﷺ أنها كذلك، فالليلة المذكورة هنا هي الليلة المذكورة في سورة القدر، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ [الدخان: ٣]، وقال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: ١]، وهي ليلة من ليالي العشر الأخيرة من رمضان.
ومن بركتها أنه أنزل فيها القرآن ليكون لها شرف عظيم بذلك، وفيها يقضي الله ما يكون خلال هذه السنة، فيفعل ما يشاء ويحكم بما يشاء ويعلم الملائكة ما يشاء من أقداره سبحانه.
ثم إن عظمته سبحانه وحكمته تأبى إلا أن ينذر قبل أن يحاسب ويعاقب ويعذب، فقال: ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدخان: ٣]، فقد أنذر الله سبحانه وتعالى وبشر في كتابه، فإذا أنذر فقد بين لهذا الإنسان ما يبعده عن النار ويهديه إلى الجنة، ففي القرآن العظيم نذارة من الله عز وجل لعباده، قال تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ [البقرة: ٤١]، وقال: ﴿وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٧٥]، فأنذرهم الله سبحانه وقال: ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدخان: ٣]، وبهذا يكون قد أعذرهم حتى لا يكون لهم على الله حجة يوم القيامة، وأصل النذارة: الإخبار بالشيء الذي سيكون فيه إخافة للناس، كأن يقول: إن تفعل كذا أو إذا لم تفعل كذا تدخل النار فهذا هو الإنذار من الله سبحانه.
وهذه الليلة المباركة قال الله عنها: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: ٤]، يفرق ويفرق بمعنى يفصل، فالقرآن هو الفرقان الذي فرق بين الحق والباطل، والذي فصل الله عز وجل فيه الأحكام.
فالله عز وجل يحكم بما يريد سبحانه، ويخبر أنه سيقع كذا وسيكون كذا، فيخبر الملائكة بما يقع في خلال هذه السنة من أمور، ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: ٤]، والأمر الحكيم أمر الله وقضاؤه وقدره المحكم المبرم الذي لا بد وأن يكون على وفق ما قضاه الله سبحانه، وهو كل أمر يكون فيه حكمه.
فيقضي الله في هذه الليلة ما يكون خلال العام من الأحداث، ومن يموت فيها ومن سيولد وغير ذلك مما يشاءه الله، فيفصل من عند الله عز وجل إلى ما في أيدي الملائكة من صحف، فيعلمون ما يكون خلال هذا العام من الوظائف والأعمال التي كلفهم الله بها.
ولذلك فإن المؤمن يقوم هذه الليلة لشرفها وفضلها، ولما يحدثه الله عز وجل فيها من أمور ينزلها على الملائكة وعلى عباده.
جاء عن الحسن البصري أن رجلاً سأله فقال: يا أبا سعيد! أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو إنها في كل رمضان، إنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل خلق وأجل ورزق وعمل إلى مثل هذا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحج يقال: يحج فلان ويحج فلان.
أي: يفصل من اللوح المحفوظ عند الله عز وجل الذي كتب فيه مقادير الخلائق، وقدر فيه مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، إلى ما في أيدي الملائكة من صحف، وعلم الله لا يغير ولا يبدل، ولكن ما يكون في أيدي الملائكة من صحف فيها: فلان يفعل كذا، فإذا فعل كذا افعلوا به كذا، أو فلان يموت في اليوم الفلاني، وإذا وصل رحمه مد في عمره ويكون كذا، أو فلان يحدث له كذا ويولد له كذا فإذا كان منه كذا يكون كذا، وعلم الله أن هذا لن يحسن ولن يبر والديه ولن يصل رحمه فسيموت في الوقت الذي قدره الله سبحانه وتعالى، فيطلع الملائكة بما يفصله له من اللوح المحفوظ إلى كتبهم التي في أيديهم ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: ٤].
يقول ابن عباس في هذه الآية: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق واسمه في الموتى.
أي: يمشي في السوق ويضحك ويعمل وقد كتب في هذه الليلة في صحف الملائكة أنه سيقبض في هذا الوقت.
وقوله سبحانه: ﴿كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: ٤] أي: كل أمر فيه حكمة من الله سبحانه.
قال سبحانه: ﴿أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ [الدخان: ٥] أي: أن الأمر الذي يفرق ويفصل أمر عظيم يليق بعظمته سبحانه، وإنما قال: ﴿أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا﴾ [الدخان: ٥] لإنه إذا كان من عند الله فلا تغيير له ولا تبديل، فالله عز وجل فرق وفصل وأمر وأحكم وأبرم سبحانه، ولا بد أن يكون ما أبرمه وما قضاه سبحانه، ولذلك عظم هذا الأمر بنسبته إليه فقال: ﴿أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا﴾ [الدخان: ٥] أي: أمراً عظيماً من عندنا.
﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ [الدخان: ٦]، فأرسل رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل ملائكة من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كله رحمة من عنده بعباده، ولذلك فإن البعض ينصبون رحمة؛ لأن اسم الفاعل في قوله: ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ [الدخان: ٥] ينصب ما بعده على أنه مفعول به، أي: نرسل رحمتنا لعبادنا، فأنزلنا هذا القرآن، وأرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزلنا الملائكة كل ذلك رحمة من عندنا، وأرسلنا الرياح لواقح رحمة من عندنا، أو أن المعنى: قضينا بأن نرسل ما نشاء من رسل الله سبحانه وتعالى، وهذا الإرسال رحمة، وهو منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: رحمناكم رحمة.
﴿رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الدخان: ٦] فرحمة الله عظيمة واسعة تليق به سبحانه، إنه هو السميع: يسمع ما يقوله خلقه، العليم: يعلم ما في قلوبهم وما يفعلونه.