تفسير قوله تعالى: (إن هؤلاء ليقولون إن كنتم صادقين)
قال تعالى: ﴿إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ﴾ [الدخان: ٣٤]، ذكرنا في أول السورة كيف أن قريشاً طغت على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم أفسدوا في الأرض، وأن النبي ﷺ دعا عليهم ثم دعا لهم، فقال تعالى: ﴿إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى﴾ [الدخان: ١٥ - ١٦].
ثم ذكر لهم فرعون وهو أشد منهم قوة، وكيف أن الله أهلكه، وكيف أن الله أنجى بني إسرائيل من فرعون وجنوده، فالله ضرب لنا هذا المثال حتى نعرف قدرة الله العظيمة سبحانه وتعالى، ثم رجع يتكلم عن قريش فقال: ﴿إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ﴾ [الدخان: ٣٤ - ٣٥]، فهؤلاء الكفار من أهل مكة يقولون للنبي صلوات الله وسلامه عليه: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ﴾ [الدخان: ٣٥]، وهذه هي عادة الكفار، فهم يقولون: ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: ٢٤] ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [الأنعام: ٢٩] أي: لن نبعث مرة أخرى، ثم يجادلون النبي ﷺ في ذلك ويقولون: لو بعثنا مرة أخرى فسيكون لنا أفضل مما في هذه الدنيا، فربنا قد أعطانا الكثير في الدنيا لفضلنا، ولأننا نستحق ذلك، فإذا بعثنا يوم القيامة سيؤتينا أيضاً، فهم لا يؤمنون بالبعث، ولكن كأنهم يتنزلون، أي: على فرض أن هناك بعثاً كما تقول: فسيؤتينا أكثر مما أعطانا في الدنيا؛ لأننا نستحق ذلك.
﴿إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ﴾ [الدخان: ٣٤] و (إن) هنا بمعنى: ما، و (إن) و (إلا) بمعنى: ما، من أسلوب القصر، أي: ما هو الأمر إلا موتة واحدة فقط، فسنموت وينتهي الأمر على ذلك، فهذه العقيدة التي كانت في قلوبهم وعقولهم هي التي كانت تدفعهم إلى الظلم، فيظلم الإنسان غيره ما استطاع؛ لأنه يعتقد ألا بعث بعد الموت.
والإيمان بالبعث يهذب أخلاق الإنسان المؤمن، ويجعل المؤمن في خوف عظيم؛ لأنه يعلم أن هناك بعثاً، وأن الله عز وجل سيسأله في ذلك اليوم، فيندفع المؤمن إلى الخير، وأما الكافر فيندفع إلى عمل الشر؛ لأنه لا يتوقع بعثاً، فهو يريد كل شيء في الدنيا.
قال الله سبحانه: ﴿إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ﴾ [الدخان: ٣٤] ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ﴾ [الدخان: ٣٥] أي: بمبعوثين، والإنسان إذا نام على الأرض فسينشر مرة أخرى، أي: يحيا مرة ثانية، ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ * فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الدخان: ٣٥ - ٣٦] أي: إذا كنت تزعم أننا سنرجع مرة أخرى فأدنا آبائنا الذين ماتوا من أجل أن نصدق ذلك، وكأن هؤلاء لا يريدون الإيمان بالغيب، وإنما يريدون المشاهدة، فيريدون أن يشاهدوا واحداً من الموتى يبعث أمامهم، وهذا كما قاله أبو جهل اللعين للنبي صلى الله عليه وسلم: (ابعث لنا قصي بن كلاب) أي: إذا كنت تريد ذلك فابعث لنا جدك قصياً، وكان رجل صدق، فإذا قال هذا الشيء صدقناك، فيا ترى لو حدث ذلك هل كانوا سيؤمنون؟ لا، فالله سبحانه يعلم بأن هؤلاء لن يؤمنوا، ولذلك لما تعنتوا مع النبي ﷺ قالوا: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٩١ - ٩٢].
فكل هذه الأشياء ويقول له قائلهم: ولو فعلت ذلك فلن نؤمن بك، أي: حتى لو عملت لنا كل الذي طلبناه منك فلن نؤمن لك، فكان كفرهم عناداً واستكباراً وحسداً للنبي ﷺ على ما آتاه الله سبحانه من البنيات والهدى، فقالوا: ﴿فأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الدخان: ٣٦]، فهم يكذبون البعث ولكن يقولون ذلك على وجه التعنت.