تفسير قوله تعالى: (أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الدخان: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ﴾ [الدخان: ٣٧ - ٥٠].
يقول الله سبحانه في هذه الآيات عن هؤلاء المشركين الذين تعنتوا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه وآذوه وآذوا أصحابه: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ﴾ [الدخان: ٣٧]، فهؤلاء المشركون يظنون أنهم أكثر عدداً، وأقوى أبداناً، وأكثر سلاحاً من قوم تبع الذين كانوا من قبلهم، وتبع لقب لملوك اليمن، فكلما جاء منهم ملك لقب بذلك وإن اختلفت أسماؤهم، فمن هؤلاء الحارث الرائش، وأبرهة الذي أراد هدم الكعبة، ومنهم عمرو ذو الأذعار، ومنهم شمر بن مالك الذي تنسب إليه سمرقند، ومنهم أفريقيس بن قيس الذي سميت إفريقيا باسمه، قيل: إنه ساق السود إلى أفريقيا، فسميت إفريقيا باسم هذا الرجل.
فالتبابعة كثيرون، وكانوا أقوياء جداً، وكان لهم عَدد وعُدد ولهم أتباع، فكان يتبع بعضهم بعضاً، فيموت منهم ملك ويأتي بعده ملك بمثل تلك القوة، وكان أكثرهم كفاراً، ولم يكن منهم على الإسلام إلا واحد فقط يسمى أسعد بن ملكي كرب، فهذا الملك اتبعه قومه وخرج مقاتلاً وفتح بلداناً كثيرة إلى أن جاء إلى المدينة وأراد فتحها، وقاتله أهل المدينة، وكان أهل المدينة غاية في الكرم، وكانوا يقاتلونه في النهار، ويطعمونه بالليل! فتعجب لحالهم، وكان معه قوم من اليهود، فسألهم عن هؤلاء وقال: ما وجدنا أكرم من هؤلاء، يقاتلوننا بالنهار ويقروننا بالليل، فقالوا: هذه بلد يهاجر إليها نبي في يوم من الأيام، فكف الرجل عن هذه البلدة، وقال فيها شعراً كان يتوارثه أهل المدينة.
ثم أراد بعض الناس أن يمكر بهذا الملك فقالوا له: هل ندلك على مكان به اللؤلؤ وبه الذهب؟! اذهب إلى هذا البيت الذي بمكة، فإن هدمته وجدت فيه اللؤلؤ والذهب، وأرادوا أن يهلكه الله، وعلموا أن هذا البيت يحميه الله عز وجل، وأنه ما أراده أحد بسوء إلا أهلكه الله، فأشار عليه رجلان من خزاعة بذلك، وكان معه من اليهود من أتباع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقالوا له: احذر من ذلك، إن هذا البيت ما جاءه أحد يريده بشر إلا أهلكه الله، فقتل الرجلين وصلبهما، وكسا الكعبة، وأطعم أهلها، ونحر عندها، فكان أول من كسا الكعبة وأسلم، لكن قومه كانوا كفاراً.
فالله عز وجل يذكر التبابعة غير هذا الرجل فيقول: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ﴾ [الدخان: ٣٧] أي: هل هؤلاء المشركون خير في القوة وفي العدد وفي القتال من التبابعة ملوك أهل اليمن الذين فتحوا بلداناً عظيمة وقاتلوا أقواماً كثيرة وانتصروا عليهم؟ فإذا كنا أهلكنا السابقين أفلا نقدر على هؤلاء القلة الحقراء القليلين؟! ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [الدخان: ٣٧] من القرون كقوم عاد وثمود وغيرهم، قال: ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ﴾ [الدخان: ٣٧]، أي: أهلكنا السابقين ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [الدخان: ٣٧]، أي: كانوا كفاراً خارجين عن طاعة الله عز وجل، فأجرموا في حق الدين، وأجرموا في حق الخلق، فاستحقوا أن نهلكهم، وكذلك كل مجرم يملي له ربه سبحانه حتى إذا أخذه لم يفلته.


الصفحة التالية
Icon