تفسير قوله تعالى: (وإن لكم في الأنعام لعبرة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون: ٢١ - ٢٤].
يذكر الله عز وجل في هذه الآيات بعض نعمه على عباده سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً﴾ [المؤمنون: ٢١]، وقد تكرر هذا المعنى في كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى مبدياً الامتنان على عباده بما خلق لهم ورزقهم سبحانه وتعالى، وجعل لهم الآيات والمعجزات الدالة على عظيم فضله، فأمر بالتدبر والنظر فيما خلقه سبحانه، حتى يعتبر الإنسان ويعلم قدرة الله سبحانه وتعالى فيعبد ربه ويوحده، وعند تلاوة الآيات السابقة ندرك أنه هنا ذكر لنا هذه النعم التي أنعم بها على العباد في خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً، فيما خلق لهم من رزق يخرج من الأرض، ومن بهيمة الأنعام، ثم عقب بعد ذلك بذكر التوحيد الذي دعا إليه أنبياء الله على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.
فبعدما ساق ذكر النعم العظيمة من الخالق العظيم ذكر لنا إرسال الأنبياء، ودعوتهم قومهم إلى توحيد الله، فكأن هذه الآيات دليل للإنسان يحتج به على قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه لا أحد غير الله سبحانه يقدر على ذلك، ولذا يقول سبحانه: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: ١٧]، فهو وحده الذي خلق هذه الأشياء، وخلقكم أنتم، أما الذين تعبدونهم من دونه سبحانه فهم ﴿لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا﴾ [الفرقان: ٣]، بل أنتم الذين تصنعونهم، ومن ثم تتعبدون لهم من دون الله سبحانه! ولذا يدرك المتأمل في سياق هذه الآيات خصوصاً في السور المكية الأمر بالتدبر في هذا الكون، ثم إتباع ذلك الأمر بذكر التوحيد الذي أرسل به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وفي الآيات السابقة ذكرت من نعم الله سبحانه وتعالى نعمة الأنعام، ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً﴾ [المؤمنون: ٢١]، ففي الأنعام عبر يعتبر بها الإنسان، والإنسان عندما يعتبر بالشيء تنشأ في قلبه قوة من الإيمان، تجعله يعبد الله سبحانه ولا يشرك به، ويوحده ويؤدي الحق الذي أمره الله عز وجل بأدائه.
والعبرة في خلق بهيمة الأنعام أن ينظر الإنسان إلى هذه البهائم، وكيف أنها لا تبين عن نفسها، فلا تنطق، كما أنها لا تمتلك عقولاً كعقولكم، فلكم في هذه البهيمة عبرة، إذ لو شاء الله لجعلكم أمثالها، وكيف أن هذه الأنعام تمشي على أربع أما أنت فتمشي على رجلين، ولو شاء الله سبحانه لعكس الأمر، ولكن جعل في الإنسان جمالاً في خلقه وانتصاباً في قامته، وجعل له عقلاً يفكر به، وقلباً يعي به، فكان محط أمره أن يتفكر ويعتبر ويتبصر، ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾ [الحشر: ٢].