قصة إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه
في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله ﷺ المدينة فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي)، وعلى هذا فإما أن يكون إسلامه كان مبكراً أول ما قدم النبي ﷺ المدينة، أو أنه بلغه هذا الشيء متأخراً والله أعلم، لكن الأغلب يذكرون أن إسلامه كان قبل وفاة النبي ﷺ بعامين أو بثلاثة أعوام والله أعلم.
فهنا يذكر في هذه القصة أنه لما بلغه مقْدم النبي ﷺ أتى فقال: (إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه؟).
وهذه الأشياء عرفها عبد الله بن سلام من كتابهم، وجاء يسأل النبي ﷺ عنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، لقد أخبرني بهن آنفاًَ جبريل قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة)، فقد كان عبد الله بن سلام رضي الله عنه على عقيدة اليهود، وقد كان اليهود يقولون: إن جبريل عدونا، ولكنه جلس يسمع النبي ﷺ فأسلم.
فقال صلى الله عليه وسلم: (أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب) يعني: تخرج نار عظيمة تقود الناس كلهم من مكانهم إلى بلاد أخرى، فتحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وقال صلى الله عليه وسلم: (وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت)، وهذا شيء لا يعرفه إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأن أمر الجنة أمر غيبي لا يطلع عليه إلا الله، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل الجنة، ومن أول داخليها.
قال: (وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها، قال: أشهد أنك رسول الله).
ففرق بينه وبين اليهود الذين ذهبوا إلى النبي ﷺ وقالوا: نسألك عن خمسة أشياء، فلما أجابهم وعرفوا أنه نبي قالوا: (من وليك من الملائكة، قال: جبريل، قالوا: لو قلت ميكائيل لاتبعناك، ولكن جبريل عدونا فلا نتبعك)، وهذا من كفرهم وجحودهم وبهتهم وبهتانهم لعنة الله عليهم، فتركوا الحق الذي عرفوه من النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن النظرة ليست إلى الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما النظرة إلى الذي جاء به وأنزله على محمد، فنسوا أن الله هو الذي أنزل هذا الكتاب، وأن النبي ﷺ رسول باعترافهم، ونظروا إلى السفير بين السماء والأرض، فهذا كفر اليهود لعنة الله عليهم! فـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه لم يكن مثلهم، وإنما سمع ما قاله النبي ﷺ فقال: (أشهد أنك رسول الله، ثم قال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، ولكن ادعهم قبل أن يعلموا بإسلامي، فاسألهم عني فدعاهم، فجاءت اليهود، ودخل عبد الله البيت) أي: اختبأ في البيت واليهود عند النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟: فقالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرأيتم إن أسلم عبد الله) أي: إن أسلم عبد الله أتسلمون مثله؟ (فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله رضي الله عنه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله؛ فقالوا: شرنا وابن شرنا)، فوصفوه بعكس ما قالوا أولاً، فهم قوم كذابون لا يستحيون أن يكذبوا في نفس الجلسة، فيقولون الشيء ويكذبونه بعد قليل.
وكذلك جاء في مسند الإمام أحمد من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه قال: (انطلق النبي ﷺ يوماً وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة في يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم)، أي: أنه ﷺ عليهم دخل عليهم يدعوهم إلى الله سبحانه، (فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر اليهود! أروني اثني عشر رجلاً يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليهم).
ومعنى الحديث: أنه لو أسلم عشرة من اليهود لأسلم كل اليهود، ومع ذلك مات ﷺ ولم يسلم عشرة من اليهود، وأسلم من النصارى الكثير وأما اليهود فلا، قال تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [المائدة: ٨٢]، فاليهودي مجرم كذاب، يكذب ويجحد الحق الذي يعرفه، فإذا كانوا فعلوا ذلك مع موسى عليه الصلاة والسلام فسيفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم، من باب أولى.
فقال لهم: (أروني اثني عشر رجلاً) أي: بعدد الاثني عشر الذين بعثهم الله عز وجل في بني إسرائيل، ﴿اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ [المائدة: ١٢]، قال: (أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليهم)، فقد غضب الله على اليهود ولعنهم وأعد لهم عذاباً عظيماً، كما قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ﴾ [المائدة: ٧٨ - ٨١] أي: وبما جاءهم من الحق، فلو كانوا يؤمنون بالله سبحانه، ويؤمنون بالنبي ﷺ لفتح الله عز وجل عليهم بركات من السماء والأرض، ولأطعمهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم جحدوا برسالة النبي ﷺ ولم يؤمنوا به، فكان أن غضب الله سبحانه عليهم.
قال: (فأسكتوا) أي: ما أجابه أحد، أو فسكتوا ولم يجبه أحد منهم، قال: (ثم رد عليهم فلم يجبه أحد) يعني: ردد الكلام مرة ثانية، ثم مرة ثالثة فلم يجبه أحد.
فقال: (أبيتم؟) أي: أرفضتم أن تسلموا؟ (فوالله إني لأنا الحاشر) أي: آخر الأنبياء عليه الصلاة والسلام، الذي يحشر الناس على قدميه صلوات الله وسلامه عليه، فهو يسوق الناس ويدعوهم إلى دين الله عز وجل، قال: (إني لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا النبي المصطفى)، وكأن هذه الصفات كانت عندهم عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد عرفوا ذلك وجحدوا، فقال صلى الله عليه وسلم: (آمنتم أو كذبتم) يعني: أنا النبي ﷺ سواء آمنتم أو كذبتم قال: (ثم انصرف وأنا معه حتى إذا كدنا نخرج نادى رجل من خلفنا: كما أنت يا محمد! -صلوات الله وسلامه عليه-، قال: فأقبل فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلمونني فيكم يا معشر اليهود؟! قالوا: والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب منك ولا أفقه منك)، وهذه شهادة من اليهود لـ عبد الله بن سلام، فهم يقولون: ما نعرف أحداً أفقه ولا أعلم منك في التوراة، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك.
فقال: (فإني أشهد له بالله أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة، قالوا: كذبت، ثم ردوا عليه قوله وقالوا فيه شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبتم، لن يقبل قولكم، أما آنفاً فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، ولما آمن كذبتموه وقلتم فيه ما قلتم، فلن يقبل قولكم.
قال: فخرجنا ونحن ثلاثة، رسول الله ﷺ وأنا وعبد الله بن سلام -يعني: عوف بن مالك وعبد الله بن سلام -، وأنزل الله عز وجل: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأحقاف: ١٠]).
فيكون الخطاب هنا لهؤلاء اليهود، أي: كفرتم بذلك، أو لليهود وللمشركين الذين كفروا قبل ذلك، وآمن هذا الرجل، ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)).