تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ [المؤمنون: ٢٣]، لما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمه وآلاءه على عباده، أو بعضاً منها، ممتناً بها على عباده حتى يعبدوه وحده، ويشكروه على نعمه وعلى ما أعطاهم سبحانه، ذكر قصة نوح باختصار في هذه الآيات.
وقد ختم الآيات السابقة بقوله: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [المؤمنون: ٢١]، وقد ذكرنا بعضاً من المنافع فيها.
ثم قال: ﴿وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ [المؤمنون: ٢٢]، أي: على بعض بهيمة الأنعام، وهي الإبل.
وهذا من منن الله سبحانه وتعالى على عباده، أن ذكر لهم بعضاً من نعمه في طعامهم وشرابهم وملبسهم وركوبهم، فيركبون على الإبل، ويركبون الفلك، ((وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ)) والفلك هي السفن الجارية في البحر.
والإنسان يعرف قدر هذه النعمة حين يركب السفينة، وتسير به من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد، تحمل متاعه وتجارته، ويتعرف على أناس لم يكن يعرفهم، ويبيع ويشتري ويرزقه الله سبحانه وتعالى.
وهنا مناسب جداً أن ذكر نوحاً بعد ذكر السفينة؛ لأن الفلك -أي: السفينة- كانت سبباً في إنقاذ البشرية جميعها، فالإنسان ما زال موجوداً بسبب هذه السفينة؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقدر الأقدار، وهو الذي يسبب الأسباب، فأمر نوحاً أن يصنع سفينة، فهنا كأنك إذا ركبت سفينة تذكرت أول سفينة صنعت، فنوح لما صنع السفينة بأمر الله حمله الله عز وجل عليها ومن معه من المؤمنين، فكنتم أنتم من ذرية هؤلاء، ووجودكم مرتبط بأول سفينة وجدت، فهذه نعمة من نعم الله عز وجل على عباده يذكرهم بها.
والقرآن جميل وعظيم، والآيات متناسقة ومتناسبة بعضها مع بعض، فهنا ذكر نوحاً وهو أول الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام من بعد آدم، وذكر هنا أن الفلك تحملون عليها، وذكر نوحاً حتى تذكر أن أول سفينة صنعها نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف أن الله سبحانه نجى المؤمنين فيها، فكانت نعمة من نعم الله سبحانه على عباده.
وهنا لاحظ قوله: ((تُحْمَلُونَ)) فالذي يحملك ويوفر لك ذلك وسير هذه السفينة هو الله سبحانه وتعالى، فأنت تحمل عليها، ولكن قد تركب وتغرق بهذه السفينة، فالله عز وجل هو الذي حملك على السفينة وعلى الماء، وجعلك تسافر من مكان إلى مكان ببركة رب العالمين وقوته وفضله.
قال الله تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ))، فنوح النبي الرسول عليه الصلاة والسلام هو أحد أولي العزم من الرسل، دعا قومه فترة طويلة، وقد عرفنا ما ذكره الله عز وجل في القرآن من أنه دعا قومه إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً.
قال تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ))، داعياً قومه لعبادة الله عز وجل: ((يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ))، فدعوة الأنبياء والمرسلين كلهم: لا إله إلا الله، الدعوة إلى الإسلام، قال الله عز وجل: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ﴾ [يونس: ٧١]، قال هذا بعدما أتعبوه، دعاهم إلى الله سبحانه وتعالى جيلاً بعد جيل، وقوماً وراء قوم، أفراداً وجماعات، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، فلم يستجيبوا له، وفي النهاية قال: ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ [يونس: ٧١ - ٧٢] أي: لم تستطيعوا أن تفعلوا ذلك: ﴿فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٧٢].
فهذه دعوة النبي نوح عليه الصلاة والسلام أنه دعا إلى الإسلام، وكذلك الأنبياء من بعده، قال تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٨٤] والحواريون أتباع المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام قالوا لربهم: ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ [المائدة: ١١١]، فهذه هي دعوة نوح ودعوة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهذا يعقوب: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٣] أي: هذه دعوة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، فهؤلاء قالوا: نحن لله عز وجل مسلمون، فدين الإسلام هو دين الله عز وجل، فقول الأنبياء لأقوامهم: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ))، هذه هي كلمة التوحيد، وكلمة التوحيد هي لا إله إلا الله، وهي نفسها: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)).
فكلمة التوحيد فيها النفي وفيها الإثبات: (لا إله) أي: أنفي صفة الألوهية عن أي أحد إلا الله سبحانه وتعالى، فهنا أثبت الألوهية لله سبحانه وتعالى.
فنوح قال لقومه: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) قوله: ((غَيْرُهُ)) بالضم على الوصف، فيكون المعنى: ما لكم إله غيره، كأن أصلها هكذا من أله فهو إله، فرفعت هنا على المحل نفسه.
والقراءة الأخرى: (ما لكم من إله غَيرِهِ)، فهنا جرت على اللفظة نفسها، وهذه قراءة أبي والكسائي وأبو جعفر.
وقوله تعالى: ((أَفَلا تَتَّقُونَ)) أصلها أفلا تتقونه، أي: أفلا تتقون الله سبحانه وتعالى؟! أي: هل أطعتم الله ولم تعصوه سبحانه وتعالى؟!