تفسير قوله تعالى: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم فتربصوا به حتى حين)
قال الله تعالى: ﴿فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون: ٢٤] نوح عليه السلام كان في كل جيل خلال ألف سنة تقريباً يدعو قومه إلى الله عز وجل، ولكن كثيراً منهم كذبون، قال تعالى: ((فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ)) والملأ: هم كبار القوم؛ لأنهم يمتلئ بهم المكان، وهم الكبراء من الأقوام الذين يملئون العين بالنظر إليهم، ويملئون قلوب من حولهم مهابة وخوفاً منهم، ولذلك عندما يذكر الله عز وجل فرعون فإنه يذكر هؤلاء المتكبرين وهم الملأ من قومه وكبارهم.
((فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ)) أي: من قوم نوح، ((مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ)) هذه دائماً حجة الجاهل الذي لا حجة معه، يسمع الكلام ويسمع البينات والحجج ولا يستطيع أن يرد، وإنما يقول: هذا يريد أن يأخذ مني الرئاسة، هذا يريد أن يأخذ مني الكرسي، هؤلاء يريدون أن يجعلوا أنفسهم هم الكبار ويبعدون الكبار الموجودين، وهذا يريد أن يجعل نفسه أفضل منكم، ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً)) هذه هي الكلمة التي قالوها للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١]، لماذا أنت الذي نزل عليك القرآن؟ لماذا لم ينزل على أحد غيرك؟ وهنا يقولون: لولا أنزل الله ملائكة من السماء، نريد أن نرى ذلك، فهؤلاء قالوا: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ))، ما سمعنا بمثل ما جاء به هذا في آبائنا الأولين.
فحجج الكفار في كل العصور والأزمان أنهم يقولون: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٢]، أي: ستظل كما كان آباؤنا، وهنا قالوا: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ))، ولم يفكروا فيما يقولونه: ماذا ستعمل الملائكة ماذا لو نزلت؟ هل ستطيق أن تنظر للملك؟ هل تستطيع أن تسمع للملك؟ هل ستطيق أن تعصي هذا الملك إذا جاء؟ وأنت تعرف قوته وتعرف أنه يقدر عليك وعلى من في الأرض بتقدير الله عز وجل له، فهنا الملك إذا جاء لن تكون دعوة، وسيكون قهراً وإجباراً، فهنا هؤلاء لم يفكروا فيما يقولون، أنه لو نزل ملك من الملائكة، ومن أجل أن يكون هناك اختبار للناس، فسينزل في صورة البشر، ولو جعله الله على هيئة البشر فهو تحصيل حاصل، وهذا الرسول الموجود من البشر، وهذا أفضل من أن يرسل ملكاً إلى أهل الأرض.
قال الله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ﴾ [المؤمنون: ٢٥] يقولون عن نبيهم كذباً وزوراً: إنه مجنون، وكذا قالوا عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ﴿وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾ [القمر: ٩] ازدجروه وطردوه، ولم يريدوا أن يسمعوا منه صلى الله عليه وسلم، وليس هو أول من قيل عنه: إنه مجنون، فقد قيل عن أنبياء من قبله عليه الصلاة والسلام ذلك.
قالوا: ((فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ)) أي: أغرى بعضهم بعضاً وقالوا: اتركوه إلى أن يموت لوحده وانتظروا حتى تأتي عليه السنون ويأتي عليه الكبر ويأتي عليه الموت.