تفسير قوله تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة محمد: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ﴾ [محمد: ١ - ٣].
هذه سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وذكرنا مقدمات لهذه السورة في الحديث السابق، وبدأها الله سبحانه تبارك وتعالى بتحفيز المؤمنين على الجهاد في سبيل الله سبحانه، وتهييج ما في قلوبهم من إيمان على الدفاع عن دين الله سبحانه تبارك وتعالى، ومقاتلة من يصدونهم عن سبيل الله وعن الدعوة إلى الله سبحانه.
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [محمد: ١] هم الكفار الذين كانوا في أهل مكة، وصدوا النبي ﷺ ومنعوه من أن يدعو إلى الله سبحانه، وأخرجوه من داره صلوات الله وسلامه عليه، فربنا يذكر المؤمنين بصنيع المشركين؛ حتى يبارزوهم وحتى يدافعوا عن دينهم.
فإن المؤمنين لو تركوا الجهاد في سبيل الله تسلط عليهم الكفار، فالدنيا إما أن تكون فيها غالباً أو تكون فيها مغلوباً، ولا يوجد وسط في ذلك، والدنيا مثل الغابة، القوي فيها يغلب، والكافر استأسد على المسلم، وأخذ ما عنده، ولم ينفع معه مجادلة بحجة ولا بعقل ولا بشيء، فالكافر يلغي عقله، ويحكِّم سلاحه وقوته، وهذا فعل الكافر، والمؤمن يحكم شرع الله سبحانه، ويحكم دين الله عز وجل، ويخاطب العقول، لكن الكافر أغلق عقله وحكَّم سيفه، وتعرض لأذى المؤمن، فإن لم يكن المؤمن قوياً، ومعه من القوة ما يسكت به ويلجم هذا الكافر، ويدفعه إلى أن يحكم العقل، ويخضع للنقاش، فإما أن تكون ضعيفاً، والكافر قوي غالب مستأسد، غاشم، معتدي، لا يفكر ولا يسمع منك، وتقول: أدعوه، فإلى أي شيء تدعوه؟! وهو الذي يملي عليك الشروط، وهو الذي يلزمك بما يريد، لذلك يقول القرآن: ﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً﴾ [التوبة: ٨].
لا تقل: أنا سأناقشه بالعقل وسيسمع مني، فهذا كلام غير مقبول، فإن الذي حكم عليه هو الله سبحانه، وهو عليم بما في نفسه، خبير بذات الصدور وذات الأنفس، يقول لك: كن قوياً؛ حتى تعرف كيف تدعو إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، وحتى لا يصدك هذا، وحتى لا يكفر بما جئت به، وحتى لا يستر ويغطي النور الذي معك بقوته، وطغيانه، فيقول لنا: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [محمد: ١]، بدأ بذكر هؤلاء وأفعالهم القبيحة.
قال تعالى: ﴿أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: ١] فالله سبحانه أحبط أعمالهم، وأبطل ما يصنعون، وجعلهم في تيه لا يعقلون، فقد أضل أعمالهم في الدنيا وفي الآخرة.
في الدنيا: أضل أعمالهم بأن جعل على قلوبهم الران والغشاوة، وختم على القلوب، وطبع عليها، فهم لا يعقلون، ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٤].
وفي الآخرة: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣].


الصفحة التالية
Icon