تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: ٧ - ١١].
في الآيات وعد من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين الذين يدافعون عن دينه، وينصرون دين الله سبحانه أن ينصرهم الله سبحانه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: ٧]، وقد عرفنا جهاد النبي ﷺ وغزواته صلوات الله وسلامه عليه، وكيف ثبت الله عز وجل المؤمنين في مواطن كثيرة ومن عليهم بذلك، قال تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾ [التوبة: ٢٥]، ولكن حين ظنوا أنهم ينتصرون بقوتهم، بين لهم النبي ﷺ من هذا الظن خطأ، وأن القوة ليست كل شيء، وإنما الإنسان يُعد ما استطاع من قوة إيمانية، وقوة بدنية، وقوة في السلاح وغير ذلك، فالأصل أنَّ قلب الإنسان يكون مؤمناً، ومتوكلاً على الله سبحانه وتعالى.
فإذا ظن الإنسان أنه بقوته ينتصر فقد أصابه غرور واستحق أن يتركه الله سبحانه وتعالى، فكان النبي ﷺ يحذر الصحابة من الغرور ومن الاستكبار ويقول لهم حين يقول له سعد: يا رسول الله هذا السيف أريد، أعطني هذا السيف لعله يأخذه من لا يبلي بلائي، وكان عظيم البلاء رضي الله عنه، وكان في قتاله شديداً، وكان النبي ﷺ يفديه وهو يرمي ويقول: (ارمِ فداك أبي وأمي)، ومع هذا كله لم يعطِهِ السيف في يوم بدر، وكأنه يقول: أنا يدي قوية، أنا سأقاتل قتالاً شديداً، ولعله يأخذه من لا يجيد استعمال هذا السيف، فقال: (ضعه مكانه).
فلما أكثر على النبي ﷺ قال: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم؟) فالضعيف يذهب ليقاتل في سبيل الله وليس هذا مدح للضعف، وإنما مدح لقوة إيمان المؤمن الذي لا حيلة له.
وقد كان عبد الله بن مسعود من أعظم أصحاب النبي ﷺ علماً ومع ذلك كان نحيفاً جداً، وكان قصيراً جداً رضي الله عنه، قال النبي ﷺ حين ضحك الصحابة من دقة ساقيه: (لهما أثقل في الميزان من جبل أحد) فهو رضي الله عنه خلقه الله عز وجل هكذا والله يخلق ما يشاء، ولما أراد أن يحز رقبة أبي جهل بسيفه أخذ يضرب في أبي جهل ويضرب، والسيف لا يؤثر حتى قال أبو جهل: خذ سيفي، فأخذ سيفه وصعد فوق صدره فحز رقبته لعنة الله عليه.
هذا صحابي لم يمنعه أنه نحيف البدن، قصير القامة من أن يجاهد في سبيل الله رضي الله تبارك وتعالى عنه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تنصرون إلا بضعفائكم؟)، يجاهدون في سبيل الله فيري الله عز وجل كيف يصنع هؤلاء، فالضعيف يقاتل ما استطاع، ويفعل ما يقدره الله عز وجل عليه، بل يكون في قلبه قوة الإيمان بالله الذي يدفعه لأن لا يرى أنه أقل من غيره في القوة، والكفار كالجبال وهذا بجوارهم قصير ونحيف، ومع ذلك يقف ليقاتل في سبيل الله سبحانه وتعالى! هذا الضعيف قوة الإيمان في قلبه ويقول: يا ربي يا ربي فينصرنا الله بدعاء الضعيف، والضعيف أشد دعاءً واستغاثة بلله سبحانه وتعالى، وأكثر تضرعاً إلى الله سبحانه وتعالى، فالإنسان القوي ينسى نفسه وفي أثناء القتال يتناسى أمر الدعاء ويعتمد على أنه يهجم على الأعداء، لكن الضعيف دائماً على لسانه ذكر الله سبحانه؛ لأنه يعلم أن النصر ليس بيده، وهو ضعيف إن لم يقوّهِ الله عز وجل وإن كان الجميع هكذا، ولكن الضعيف أشد استحضاراً لهذا الحال من القوي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تنصرون إلا بضعفائكم؟)، يرحمهم الله سبحانه وتعالى، وليس الضعيف هو الإنسان الذي هو نحيف البدن أو أنه قليل القوة فقط، ولكن الضعيف أيضاً النساء والصبيان، فهؤلاء الضعفاء يدعون الله عز وجل فيستجيب الله سبحانه، وينصر المسلمين ببركة دعوة هؤلاء، ولجوئهم إلى الله عز وجل، وصدق استغاثتهم به سبحانه.