تفسير قوله تعالى: (إن هؤلاء ليقولون.
إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين)
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ﴾ [الدخان: ٣٤ - ٣٥].
(إن هؤلاء) مشركي مكة (لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى) أي: الموتة التي يموتونها بعد وجودهم هنا في الدنيا.
قوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى) كأنهم أرادوا إن هي إلا موتتنا هذه التي سوف نموتها، لكن هل يفهم من هذا التعبير أن المشركين يثبتون موتة ثانية؟ لا، لكن المقصود (إن هي إلا موتتنا الأولى) يعني: إن هي إلا موتتنا هذه فقط.
قال العلامة الأسنوي في التمهيد: الأول في اللغة: ابتداء الشيء.
إذاً: الشيء الذي يبدأ قد يكون له ثان وقد لا يكون، كما تقول -مثلاً- لشخص اشتغل في الصباح فقابلته فسألته: كم معك مدخول؟ قال: هذا أول ما اكتسبته، هل معنى ذلك أنه لا بد أن يكتسب بعد ذلك شيئاً؟ لا، قد يكتسب وقد لا يكتسب، فهذا يدل على الأولية فقط.
ومن فروع المسألة فرع فقهي يترتب على هذا الفهم، وهو لو أن رجلاً قال لامرأته: إن كان أول ولد تلدينه ذكراً فأنت طالق، فإذا ولدت هذا الذكر أتطلق أم لا تطلق؟ تطلق.
لكن للأسف الشديد نحن علمنا الناس وحفظناهم في مسألة الطلاق أنه إذا سأل شخص عن مسألة طلاق أن يقال له: نيتك كانت ماذا؟ وأصبح الواحد يُسأل هذا السؤال وهو قد أتى بمصيبة كبرى ويقول: لم تكن نيتي طلاقاً! فنحن الذين علمنا الناس، وكذلك علمناهم مسألة الطلاق حال الغضب، وأن الغضب قد يكون عذراً، وما أكثر المفاسد المترتبة على هذا! نحن نقول في طلاق الكناية: اسأله عن النية، لكن من أتى بلفظ صريح فإنه يقع به الطلاق، كأن يقول لها: أنت طالق، أو كان الطلاق معلقاً بشرط ووقع الشرط؛ فحينئذ يقع الطلاق، وموضوع النية يكون في طلاق الكناية، كالحقي بأهلك مثلاً، أو غير ذلك من العبارات التي تفتقر إلى استبيان النية من الشخص، ويجب أن يكون صادقاً في الإجابة؛ لأن الله سيحاسبه على ما في قلبه، فموضوع النية لا بد أن يوضع له حد، وكذلك الكلام في موضوع الغضب، وهذه لفتة عابرة، ونعود لموضوعنا؛ من فروع المسألة أنه لو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكراً فأنت طالق، فإنها تطلق إذا ولدت هذا الولد وإن لم تلد غيره باتفاق العلماء؛ لأنه قال: أول ولد، ولا يقال: ننظر الثاني فقد يكون أنثى، لا؛ لأنه لا يشترط، وقد تلد مرة ثانية وقد لا تلد؛ لأن كلمة أول هي مجرد ابتداء الولادة بدون ارتباطها بكونها تلد ثانياً أو ثالثاً.
قال أبو علي: اتفقوا على أنه ليس من شرط كونه أولاً أن يكون بعده آخر، وإنما الشرط ألا يتقدم عليه غيره.
قوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى) يعني: إن هي إلا موتتنا هذه التي ستحصل لنا في الدنيا، والمشركون لا يعتقدون أن هناك موتة ثانية.
قوله: (وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ) أي: وما نحن بمبعوثين، وهذا يؤيد أن المشركين لا يعتقدون أن هناك موتة ثانية؛ لأنهم لو كانوا يعتقدون أن هناك موتة ثم حياة لما أنكروا البعث والنشور، فقوله: (وما نحن بمنشرين) يدل على أنهم يعتقدون أن هذه الموتة لا شيء بعدها: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: ٢٤].