تفسير قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ثم إلى ربكم ترجعون)
قال الله عز وجل: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الجاثية: ١٤].
(قل للذين آمنوا)، أي: صدقوا بالله واتبعوه.
(يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) قيل: لا يرجون ثوابه، أو لا يخافون بأس الله ونقمته، على أن الرجاء يأتي أحياناً بمعنى الخوف، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ [نوح: ١٣] أي: لا تخافون له عظمة.
وقيل: معنى: (يغفروا للذين لا يرجون أيام الله)، أي: لا يخشون مثل العذاب الذي نزل بالأمم الخالية، والأيام يعبر بها عن الوقائع والأحداث.
وقيل: لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه.
وقيل: لا يخافون البعث والنشور.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (قل للذين آمنوا)، أي: صدقوا بالله واتبعوه.
(يغفروا للذين لا يرجون أيام الله)، أي: لا يخافون بأس الله ونقمه ووقائعه بأعدائه في الأمم الخالية.
(ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون)، أي: من عملهم، ومنه العفو والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش، فيجزي المؤمنين على صبرهم على أذى المشركين الذي أخبرهم الله سبحانه وتعالى به في قوله: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ [آل عمران: ١٨٦]، فهذا أمر بالصبر والتجاوز والعفو عن بعض ما يؤذي وما يوحش، أي: سوف تجزون على ذلك: ﴿لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الجاثية: ١٤].
وقد روي أنها نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من غفار، فهم أن يبطش به، فنزلت هذه الآية.
قال ابن العربي: هذا لم يصح من حيث السبب.
وقيل: إنها نزلت في غزوة بني المصطلق لما أرسل عمر من سقى وجمع الماء، واستوفى الماء، فقيل لبعض المشركين: إن المسلمين هم الذين أخذوا هذا الماء، فقال: ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك! فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاخترط سيفه وأراد قتله، فنزلت هذه الآية.
وقيل: نزلت في فنحاص اليهودي، فإنه عندما نزل قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: ٢٤٥] قال قولته الشنيعة، ونسب الله سبحانه وتعالى إلى الحاجة والعوز.
وإذا قيل: إن الآية نزلت في كذا، فلا يشترط أن يكون بالفعل هو سبب النزول الذي نزلت الآية من أجله؛ لأن هذه الوقائع كلها بعد الهجرة.
هذا السبب هو الذي جعل البعض يقول: إن هذه السورة مكية إلا هذه الآية، بناء على ما روي فيها من أسباب النزول، ولكن السبب لم يصح، وحتى لو ثبت فلا يستلزم ذلك كونها مدنية، فنزولها في عمر -إن صح ذلك- إنما يعني ذلك أنها تصدق على قضيته، فالمعنى: أن هذه الآية الكريمة تصدق على المناسبة الفلانية، حتى ولو لم يكن نزل فيها بالفعل، وقد سبق التنبيه على هذا.
يقول: وقد روي أنها نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من غفار، فهم أن يبطش به، فتكون الآية المدنية.
قيل: يؤيده ما أورد على كونها مكية، من أن من أسلم بها كانوا مقهورين، فلا يمكنهم الانتصار منهم، والعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح، أي: أن البعض استدل على كون هذه الآية مدنية بالأخبار التي أشرنا إليها، وهي لا يصح منها شيء، فأيدوا ذلك بمعنى آخر، فقالوا: إن العفو لا يؤمر الإنسان به إلا إذا كان عن قدرة وتمكن من التنفيذ، فكونها مكية، والمؤمنون في مكة كانوا مستضعفين؛ قد يتعارض مع قوله تعالى: ((يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ))، فالعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح؛ لأنه مقهور لا يمكنه أصلاً الانتصار ممن يؤذيه، فيتعين أن تكون هذه الآية مدنية.
وأجيب: بأن المراد أنه يفعل ذلك بينه وبين الله في قلبه ليثاب عليه، حتى لو كان مقهوراً، فهو يشكو إلى الله سبحانه وتعالى ليثاب على ذلك، مع العلم أنه ليس كل أحد من المؤمنين الموجودين في مكة كانوا مقهورين مغلوبين، بل كان منهم من يستطيع الانتصار لنفسه، وأولهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
فالصواب: أن الآية مكية مثل بقية السورة، ومعنى نزولها في عمر -إن صح الأثر- صدقها على قضيته، والاستشهاد بها لسماحه كما حققنا المراد من النزول غير ما مرة.
ثم قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾ [الجاثية: ١٥] لكونه فكها من العذاب.
﴿وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ [الجاثية: ١٥] أي: أساء عمله بمعصية ربه، فعلى نفسه جنى؛ لأنه أوبقها بذلك.
﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ [الجاثية: ١٥] أي: تصيرون، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.


الصفحة التالية
Icon