تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب فيما كانوا فيه يختلفون)
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنْ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [الجاثية: ١٦ - ١٧].
(الكتاب): التوراة.
(والحكم): الفهم للكتاب، والعلم بالسنن التي لم تنزل بالكتاب.
(والنبوة): جعلنا منهم أنبياء ورسلاً إلى الخلق.
وقوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة) هل يصلح أن نقول: ابتداء من إسحاق؟ لا؛ لأن إسحاق هو أبو إسرائيل وليس ابن إسرائيل، ولا يصلح أن تقول: ابتداء من يعقوب؛ لأن يعقوب هو نفسه إسرائيل، وإنما أول أنبياء بني إسرائيل هو يوسف عليه السلام، كما قال الله: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [غافر: ٣٤].
إذاً: المقصود بقوله: (والنبوة)، من وقت يوسف إلى زمن عيسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
(ورزقناهم من الطيبات)، المن والسلوى.
(وفضلناهم على العالمين)، على عالم أهل زمانهم، بإيتائهم ما لم يؤت غيرهم.
يقول العلامة الشنقيطي: رحمه الله تعالى في هذه الآية الكريمة: (وفضلناهم على العالمين): ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه فضل بني إسرائيل على العالمين، ووضحه في قوله في البقرة: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ٤٧]، وقال في الدخان: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الدخان: ٣٢]، وقال في الأعراف: ﴿قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٠].
ولكن الله جل وعلا بين أن أمة محمد ﷺ خير من بني إسرائيل، وأكرم على الله كما صرح بذلك في قوله عز وجل: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] يعني: أنتم، فخير صيغة تفضيل، والآية نص صريح في أنهم خير من جميع أمم بني إسرائيل وغيرهم.
ومما يزيد ذلك إيضاحاً: حديث معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال في أمته: (أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله).
رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم وهو حديث مشهور، قال ابن كثير: حسنه الترمذي، ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهما نحوه.
قال الشنقيطي رحمه الله وغفر له: ولاشك في صحة معنى حديث معاوية بن حيدة المذكور رضي الله عنه؛ لأنه يشهد له النص المعصوم المتواتر، في قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠]، وفي قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: ١٤٣].
فقوله: (وسطاً) أي: خياراً عدولاً.
إذاً: لا تعارض بين هذه الآية التي تدل على الأفضلية المطلقة لأمة محمد ﷺ على جميع العالمين، وبين ما دل على تفضيل بني إسرائيل على العالمين؛ لأن ذلك التفضيل الوارد في بني إسرائيل ذكر فيهم حال عدم وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أي: (وفضلناهم على العالمين) الموجودين.
فهل كانت أمة محمد ﷺ موجودة في ذلك الوقت؟ لم تكن أمة محمد عليه الصلاة والسلام قد وجدت بعد، وبنو إسرائيل المفضلون ليسوا أجداداً للقردة والخنازير الموجودين الآن؛ لأن العلاقة بيننا وبين هؤلاء المذكورين الذين فضلهم الله على العالمين أنهم إخواننا، فهم مسلمون مثلنا، وهؤلاء لو عاشوا حتى أدركوا النبي عليه الصلاة والسلام لدخلوا في الإسلام؛ لأنهم أتباع موسى على دين الإسلام، وعلى التوراة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى؛ فهم مسلمون مؤمنون موحدون يعبدون الله، وإذا كان نبيهم نفسه قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، فكيف بأتباع موسى؟ لاشك أنهم سيكونون أحرى وأولى أن ينقادوا للنبي ﷺ ولشريعته.
فليس لليهود الكفرة -لعنهم الله- أن يحتجوا بهذه الآية على أنهم شعب الله المختار؛ لأن الذين اختارهم الله كانوا مسلمين مؤمنين موحدين، ولو قدر أنهم يعيشون الآن لانضموا إلى المسلمين في محاربة اليهود؛ لأنهم كفار، لأن الإيمان يميز الناس إلى حزب الله وحزب الشيطان.
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ﴾ [الصف: ١٤]، فكلهم بنو إسرائيل، لكن انفصلوا بمجرد الإيمان، وبمجرد الدخول في الإسلام؛ ((فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ))، وانظر ماذا قال عز وجل بعدها مباشرة: ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ [الصف: ١٤]، صاروا أعداء بمجرد المفارقة والمفاصلة في ضوء العقيدة وفي ضوء الإيمان، فمن كفر فهو عدو للمؤمن حتى لو كان أباه أو أخاه أو قريبه أو صفيه، فهو عدو له وعدو للجميع.
الشاهد: ليس لهؤلاء الكفار أن يحتجوا بهذه الآية على أنهم مختارون، وكيف يختارهم الله وهم يشتمون الله؟ كيف وهم قتلة الأنبياء، وهم الطاعنون في كتاب الله وفي سنة رسول الله، وفي دين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! إذاً: التفضيل الوارد في بني إسرائيل ذكر فيهم حال عدم وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعدوم في حال عدمه ليس بشيء حتى يفضل أو يفضل عليه، ولكنه تعالى بعد وجود أمة محمد ﷺ صرح بأنها خير الأمم، وهذا واضح؛ لأن كل ما جاء في القرآن من تفضيل بني إسرائيل إنما يراد به ذكر أحوال سابقة؛ لأنهم في وقت نزول القرآن كفروا وكذبوا به، كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٨٩]، والله سبحانه وتعالى في سورة البقرة وآل عمران والنساء، والمائدة والنساء ذم كفار بني إسرائيل الذين أبوا الانقياد لشريعة محمد ﷺ والدخول في الإسلام، ففي وقت نزول القرآن هل يمكن أن يكونوا ما زالوا مفضلين على العالمين وقد كفروا وكذبوا به؟ هل يتصور أنهم لا يزالون هم شعب الله المختار، والله سبحانه وتعالى يقول لهم: ((فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ))، ويقصد بذلك اليهود؟ لا يمكن، فالتفضيل إنما هو في حال عدم وجود أمة محمد عليه الصلاة والسلام، لكن بعد نزول القرآن كفروا بالقرآن وكذبوا، كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٨٩].
ومعلوم أن الله لم يذكر لهم في القرآن فضلاً إلا ما يراد به أنه كان في زمنهم السابق لا في وقت نزول القرآن، فمعلوم أن أمة محمد ﷺ لم تكن موجودة في ذلك الزمن السابق الذي هو ظرف تفضيل بني إسرائيل، وأنها بعد وجودها صرح الله عز وجل بأنها خير الأمم كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى.
يقول تبارك وتعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ﴾ [الجاثية: ١٧] أي: حججاً وبراهين وأدلة قاطعة تأبى الاختلاف، ولكنهم أبوا إلا الاختلاف.
﴿فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [الجاثية: ١٧] أي: ظلماً وتعدياً منهم؛ لطلب الحظوظ العاجلة.
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [الجاثية: ١٧] أي: بالمؤاخذة والمجازاة.
قال ابن كثير: وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم، وأن تقصد منهجهم، يعني: في الاختلاف والفرقة.


الصفحة التالية
Icon