تفسير قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: قال تبارك وتعالى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ [محمد: ٤ - ٦].
قوله تعالى: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ))، لما ميز الله سبحانه وتعالى بين الفريقين أمر المؤمنين بجهاد الكفار، (فإذا لقيتم) أيها المؤمنون! ((الذين كفروا فضرب الرقاب)).
قال ابن عباس في الذين كفروا هنا: هم الكفار المشركون عبدة الأوثان، ويقول: هم كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة، ذكره الماوردي، واختاره ابن العربي فقال: وهو الصحيح؛ لعموم الآية فيه، أي: أن الآية أتت بصيغة عموم ((الذين كفروا))، فتعم كل من كفر سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً.
((فَضَرْبَ الرِّقَابِ)) ضرْب: مصدر، قال الزجاج في قوله: ((فضرب الرقاب)): أي: فاضربوا الرقاب ضرباً، وخص الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بقطع الرقاب، وقيل: إنه لفظ دل على الإغراء، أي: فالزموا ضرب الرقاب.
قال أبو عبيدة: وهو كقولك: يا نفس! صبراً، إغراءً بالصبر، أي: يا نفس! اصبري صبراً.
وقيل: التقدير: فاقصدوا ضرب الرقاب.
وقال بعض العلماء: الحكمة من قوله تعالى: ((فَضَرْبَ الرِّقَابِ)) ولم يقل فاقتلوهم أن في التعبير بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل؛ لما فيه من تصوير القتل بأبشع صوره، وهو حز العنق، وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وأوجَه أعضائه.
قوله: ((حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ)) أي: أثخنتم القتل، قال الشوكاني: حتى إذا بالغتم في قتلهم، وأكثرتم القتل بهم، وهذه غاية للأمر بضرب الرقاب لا لبيان غاية الحق، وهو مأخوذ من الشيء الثخين أي: الغليظ، تقول: هذا قماش ثخين، أي: غليظ وسميك، فكذلك هنا: ((حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ)) يعني: أكثرتم فيهم القتل.
قوله: ((فَشُدُّوا الْوَثَاقَ)) قرأ الجمهور بفتح الواو من الوثاق، وقرأ السلمي بكسرها.
والوثاق: اسم للشيء الذي يوثق به كالرباط أو الحبل مثلاً، وقرأ الجمهور: وإنما أمر سبحانه بشد الوثائق لئلا ينفلتوا، والمعنى: إذا بالغتم في قتلهم فأسروهم وأحيطوهم بالوثاق.
قوله: ((فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا))، أي: فإما أن تمنوا عليهم بعد الأسر مناً أو تفدون فداءً، والمن: هو الإطلاق بغير عوض، والفداء: ما يَفدي به الأسير نفسه حتى يتحرر من الأسر.
ولم يذكر القتل هنا اكتفاء بما تقدم، فالأمر هنا يكون تخييراً بين ثلاثة أشياء: إما القتل، وإما المنّ، وإما الفداء، واقتصر هنا في هذه الآية على التخيير بين المن والفداء ولم يذكر القتل؛ لأن القتل مذكور في أول الآية.
وقد قرأ الجمهور: ((فإما منا بعد وإما فداء)) بالمد، وقرأ ابن كثير: ((وإما فدىً)) بالقصر، وإنما قدم المنّ على الفداء لأنه من مكارم الأخلاق، فلهذا كانت العرب تفتخر به، كما قال شاعرهم: ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حملُ المغارم وكما يقول الشاعر الآخر: ما كان ضرك لو مننت وربما منَّ الفتى وهو المغيض المحنق فمما كانت تفتخر به العرب: المنّ مع القدرة على الفدية، فيمنون بفكاك الأسرى بلا مقابل، كما قال شاعرهم في البيت السابق: ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حملُ المغارم وروي عن بعضهم أنه قال: كنت واقفاً على رأس الحجاج حين أُتي بالأسرى من أصحاب عبد الرحمن بن الأشعث وهم أربعة آلاف وثمانمائة، فقتل منهم نحواً من ثلاثة آلاف، حتى قُدِّم إليه رجل من كندة فقال: يا حجاج! ما جازاك الله عن السنة والكرم خيراً، قال: ولم ذاك؟ قال: لأن الله تعالى قال: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)) في حق الذين كفروا، فوالله! ما مننت ولا فديت، فقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق: ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حمل المغارم فقال الحجاج: أفٍ لهذه الجيف -يقصد بالجيف الثلاثة الآلاف الذين حصدهم عما قريب- أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام؟! خلوا سبيل من بقي، فخلّي يومئذ عن بقية الأسرى، وهم زهاء ألفين؛ بقول ذلك الرجل.
((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) الوزر: هو الثقل، ومنه وزير الملك، فسمي وزيراً لأنه يتحمل عنه الأثقال والأعباء، قال مجاهد وابن جبير في قوله: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)): هو خروج عيسى عليه السلام.
وعن مجاهد أيضاً: حتى لا يكون دين إلا دين الإسلام، فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة، وتأمن الشاة من الذئب، ونحوه عن الحسن والكلبي والفراء والكسائي.
فقال الكسائي: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) حتى ينتهي الجهاد.
ولا ينتهي الجهاد حين يسلم الخلق أجمعون.
وقال الفراء: حتى يؤمنوا ويذهب الكفر.
وقال الكلبي: حتى يظهر الإسلام على الدين كله.
وقال الحسن: حتى لا يعبدوا إلا الله.
والمعنى: أن المسلمين مخيرون بين تلك الأمور وهي: القتل أو المن أو الفداء، إلى غاية وهي: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) أي: حتى تنتهي الحرب مع الكفار.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: (يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إماماً مهدياً، وَحكَماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وتوضع الجزية، وتضع الحرب أوزارها)، فإذا صح هذا الحديث فإنه يكون تفسيراً لقوله: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) أي: حتى يسلم الخلق أجمعون.
وعن سلمة بن نفيل رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (لا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج) أخرجه ابن سعد، والإمام أحمد، والنسائي، والبغوي، والطبراني، وابن مردويه.
قال قتادة في قوله: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)): أي: حتى لا يبقى شرك.
وهذا كقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٣] أي: حتى لا يكون شرك، ويكون الدين لله.
وقال ابن كثير: وقوله: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) قال مجاهد: حتى ينزل عيسى ابن مريم، وكأنه أخذه من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال) رواه أبو داود.
إذاً: فلعل هذا الحديث هو الذي استندوا إليه في هذا التفسير، ومعلوم أن الذي يقاتل الدجال هو المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، ويكون معه المسلمون، فيقاتلون الدجال وأتباعه من اليهود.
وروى أبو القاسم البغوي عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: (لما فتح على رسول الله ﷺ فتح فقالوا: يا رسول الله! سيبت الخيل، ووضعت السلاح، ووضعت الحرب أوزارها؟ قالوا: لا قتال، قال: كذبوا! الآن جاء القتال، لا يزال الله يرفع قلوب قوم يقاتلونهم فيرزقهم منهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وعقر دار المسلمين بالشام) هكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي.
إذاً: فهذا يقوي القول بعدم نسخ الآية، وأن هذا التشريع مستمر إلى أن ينزل المسيح يقتل الدجال، فكأن هذا الحكم -وهو التخيير بين الثلاثة الأمور- شرع باقٍ مادامت هناك حرب، فإذا انتهت الحرب فحينئذ يرفع هذا الحكم، وهذا يقوي القول بعدم نسخ هذه الآية الكريمة.
وقيل: معنى (الأوزار): السلاح، فالمعنى: شدوا الوثاق حتى تأمنوا وتضعوا السلاح، ويكون معنى الحرب هنا (حتى تضع الحرب أوزارها): الأعداء المحاربين، أي: حتى يضعوا سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة، ويقال للكراع: أوزار.
قال الأعشى: وأعددت للحرب أوزارها رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا


الصفحة التالية
Icon