خلاف العلماء في تأويل قوله: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)
وقد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية الكريمة: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)).
القول الأول: إن هذه الآية كانت في أهل الأوثان ثم نسخت، فلا يجوز أن يفادوا، ولا يمن عليهم، والناسخ لها عندهم قوله تعالى: ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ))، وهذه آية السيف المعروفة في سورة براءة، قال تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [التوبة: ٥]، فقالوا: إن هذه الآية ناسخة للآية التي في سورة محمد، بمعنى: أن أهل الأوثان لا يجوز أن يفادوا، ولا أن يمن عليهم، وإنما الواجب هو قتلهم.
ونسختها أيضاً آية: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٧]، وأيضاً قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [التوبة: ٣٦].
قاله قتادة والضحاك والسدي وابن جريج والعوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقاله كثير من الكوفيين.
وقال عبد الكريم الجزري: (كُتب إلى أبي بكر في أسير أسر، فذكروا أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا، فقال: اقتلوه؛ لقتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا وكذا).
قال الشوكاني: والمائدة آخر ما نزل، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان، ومن تؤخذ منهم الجزية، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
القول الثاني: إنها في الكفار جميعاً، وهي منسوخة أيضاً على قول جماعة من العلماء وأهل النظر، منهم قتادة ومجاهد قالوا: إذا أسر المشرك لم يجز أن يمنّ عليه، ولا أن يفادى به فيرد إلى المشركين، ولا يجوز أن يفادى عندهم إلا بالمرأة؛ لأنها لا تقتل، والناسخ لها قوله تعالى: ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ))؛ إذ كانت براءة آخر ما نزلت بالتوقيف، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء، والصبيان، ومن يؤخذ منه الجزية، فهناك أدلة في النهي عن قتل النساء، والصبيان، ومن لا يؤخذ منهم الجزية كالرهبان المعتزلين في الصوامع وغير ذلك.
وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة؛ خيفة أن يعودوا حرباً على المسلمين، أي: إذا تُركوا.
وعن قتادة قال: ((فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)) قال: نسخها قوله: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾
[الأنفال: ٥٧].
وقال مجاهد: نسخها قوله تعالى: ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ))، وهو قول الحكم.
إذاً: فالقولان يقولان: إنها منسوخة، لكن القول الأول يقول: إنها في أهل الأوثان، والقول الثاني: أنها في الكفار عامة، إلا ما استثني من النساء، والصبيان، ومن لا تؤخذ منه الجزية.
القول الثالث: إنها ناسخة، فعن الضحاك قال في قوله تعالى: ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)) قال: نسخها قوله: ((فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)).
وعن عطاء في قوله: ((فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً))، قال: فلا يقتل المشرك، ولكن يمنّ عليه ويفادى كما قال الله عز وجل.
وقال أشعث كان الحسن يكره أن يقتل الأسير، ويتلو قوله: ((فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)).
وعن الحسن قال: ليس للإمام إذا حصل الأسير في يديه أن يقتله، لكنه بالخيار في ثلاثة منازل: إما أن يمنّ، أو يفادى، أو يسترقّ.
القول الرابع: إنه لا فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧]، فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره، وهذا قول سعيد بن جبير.
القول الخامس: إن الآية محكمة لا نسخ فيها، والإمام مخير في كل حال.
رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقاله كثير من العلماء منهم: ابن عمر والحسن وعطاء، وهو مذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبو عبيد وغيره، واختاره القرطبي وقال: لأن النبي ﷺ والخلفاء الراشدين فعلوا ذلك، فقتل النبي ﷺ عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث يوم بدر صبراً، وفادى سائر أسارى بدر، ومنَّ على ثمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده، وأخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها أناساً من المسلمين، وهبط عليه ﷺ قوم من أهل مكة فأخذهم النبي عليه الصلاة والسلام ومنّ عليهم، وقد منّ على سبي هوازن، وهذا كله ثابت في الصحيح.
قال النحاس: وهذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما، وهو قول حسن؛ لأن النسخ إنما يكون لشيء قاطع، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للنسخ، وذكْر المنّ والفداء لا ينافي جواز القتل، وإذا كان الأسر والاسترقاء والمفاداة والمنّ فيه مصلحة للمسلمين جاز.
وقد فصل القاسمي رحمه الله تعالى أيضاً في حكم هذه الآية بما مختصره: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ)) يقول: لما كان طليعة هذه السورة تمهيداً لجهاد المشركين الساعين في الأرض بالفساد، يعني: سبق في الآيات السابقة إشارة إلى ما اقتضى استحقاق المشركين للقتال والشدة والغلظة، وهو أنهم كفروا وصدوا عن سبيل الله، وأنهم اتبعوا الباطل، فهم يستحقون التشنيع المذكور في الآية الرابعة، فإذا لقيتم هؤلاء الذين كفروا وصدوا غيرهم عن سبيل الله فأضل الله أعمالهم، والذين اتبعوا الباطل خلافاً للمؤمنين.
يقول: لما كان طليعة هذه السورة تمهيداً لجهاد المشركين الساعين في الأرض بالفساد، الصادين عن منهج الرشاد، وبعثاً على الصدق في قتالهم، وكسحاً لعقبة باطلهم، عملاً بما يوجبه الإيمان، ويقبضه الإيقان، وتمييزاً لأولياء الرحمن من أولياء الشيطان، فأعقب تلك الطليعة بهذه الجملة، أي: أعقب ذكر هذه الطليعة المقدمة في أوائل السورة بهذه الجملة: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ)).
ولهذا قال أبو السعود: الفاء لترتيب ما في حيّزها من الأمر على ما قبلها: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: إن ضلال أعمال الكفرة وخبثهم، وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم مما يوجب أن يرتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام، وكأن المعنى: فإذا كان الأمر على ما ذكر من أن: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [محمد: ١ - ٢] إلى آخر الآية، فإذا كان الأمر كذلك فإذا لقيتموهم في المحاربة فضرب الرقاب، وأصله: فاضربوا الرقاب ضرباً، فحذف الفعل وقدّم المصدر، فأنيب منابه مضافاً إلى المفعول، وفيه اختصار وتأكيد بليغ، والتعبير به عن القتل تصوير للقتل بأشنع صوره، وتهويل لأمره، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون منه، فإن أيسر وأسهل طريقة للقتل هي ضرب الرقاب.
قوله: ((حتى إذا أثخنتموهم)) أي: حتى إذا أكثرتم فيهم القتل، وقهرتم وغلبتم من تبقى منهم ممن لم تضرب رقبته في القتال فصاروا في أيديكم أسرى ((فشدوا الوثاق)) أي: أمسكوهم بهذا الوثاق؛ كي لا يقتلوكم فيهربوا منكم.
قوله: ((فإما مناً بعد وإما فداءً)) أي: فإما تمنّون بعد ذلك عليهم فتطلقونهم بغير عوض لزوال سبُعيتهم -أي: كأنهم كالوحوش الضارية-، وإما تفدونهم فداء، فتطلقونهم بعوض مال، أو مبادلة الأسرى كمسلم أسروه، فيتقوى به المسلمون، أو يتخلص أسيرهم.
ولم يذكر القتل هنا اكتفاء بما مر من قوله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧]، وذلك فيمن يرى فيه الإمام بقاء السَّبُعية، أي: من كان في عتاة الكفار وأقويائهم ممن لم يقهر، وبقي فيه الكبر والإصرار على النكاية بالمسلمين، فإن رأى الإمام أن مثل هؤلاء لو أطلقوا فإنهم يعودون بالضرر على المسلمين؛ لبقاء السبعية فيهم كاملة، والقدرة على الأذية والنكاية، فله أن يقتلهم؛ كي لا يعودوا إلى مقاتلة المسلمين.
ولم يذكر الاسترقاق أيضاً هنا؛ لأنه في معنى استدامة الأسر، وذلك فيمن يرى فيه نوع سبُعية، ولا تزال كذلك حتى تضع الحرب أوزارها، أي: إلى انقضاء الحرب، والأوزار كالأحمال وزناً ومعنى، واستعير لأداة الحرب التي لا تقوم إلا بها، أي: أنه شبه آلات الحرب بإنسان يحمل حملاً على رأسه أو ظهره، وقد جاء ذكرها في قول الأعشى: وأعددت للحرب أوزارها رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا يعني: آلات الحرب.
وقيل: (أوزارها) آثامها، أي: حتى يترك أهل الحرب -وهم المشركون- شركهم ومعاصيهم، وذلك بأن يسلموا.
قال في الإكليل: في الآية بيان كيفية الجهاد.
يقول القاسمي: وهذا القول هو الذي أختاره؛ أن الآية محكمة، والإمام بالخيار بين واحد من هذه الثلاثة: إما القتل، وإما المنّ، وإما الفداء، فإذا دار الأمر في الآية بين الإحكام و


الصفحة التالية
Icon