تفسير قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)
قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: ٢٤].
وهذه آية جامعة عظيمة، والكلام فيها يطول جداً، وإذا أفردنا الكلام الذي ينبغي أن نقوله حتى نستوفي جزءاً من فوائد هذه الآية الكريمة فسوف يكون الكلام كثيراً جداً، ويكفي أن العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى فسر هذه الآية في مائة وخمسة وخمسين صفحة في كتابه الرائع: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)، ففسر فيها هذه الآية العظيمة، واستنبط منها العبر، وربط ما دلت عليه بواقع المسلمين في العلم والعمل.
قوله: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾، قرأ الجمهور: ((أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا))، وقرئ: (أم على قلوب إِقفالها) بكسر الهمزة، على أنها مصدر.
قال ابن القيم رحمة الله عليه: يريد على قلوب هؤلاء أقفال.
((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ))، قد بدت على قلوب أقفالها يعني: على قلوب هؤلاء المذكورين في الآية.
وقال مقاتل: يعني: أن هذه الأقفال قد طبعت على القلوب.
عن عروة بن الزبير قال: (تلا رسول الله ﷺ يوماً: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها حتى يكون الله عز وجل يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي فاستعان به)، أي: لأنه فقه معنى هذه الآية.
وأصل القفل: اليبس والصلابة، يقول القرطبي: فالأقفال هنا إشارة إلى إرتياج القلب وخلوه عن الإيمان، أي: فلا يدخل قلوبهم الإيمان، ولا يخرج منها الكفر؛ لأن الله طبع على قلوبهم، وقال: ((عَلَى قُلُوبٍ))؛ لأنه لو قال: على قلوبهم لم يدخل قلب غيرهم في هذه الجملة، والمراد: أم على قلوب هؤلاء وقلوب من كانوا بهذه الصفة أقفالها؟! وهذا الاستفهام قيل: إنه للإنكار، وقيل أيضاً: ((أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا))، أم: هي المنقطعة، ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ))، بل: ((عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا))، فهم لا يفهمون ولا يعقلون، والمراد قلوب هؤلاء المخاطبين.
قوله: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ))، يقول: أصل التدبر: التفكر في عاقبة الشيء، وما سيئول إليه أمره.
وتدبر القرآن لا يكون إلا مع حضور القلب، وجمع الذهن، ويشترط فيه تقليل الغذاء والكلام، وإخلاص النية، والآيات بعمومها تشمل كل من لا يتدبر القرآن ولا يتأثر به، ويدخل فيه من نزلت فيه الآية أولاً، والمقلدة الشاردة عن التدبر في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فهؤلاء هم الذين: ((عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)).
وإن كان في هذا الحصر نظر.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الهمزة في قوله: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ)) للإنكار، والفاء عاطفة على جملة محذوفة على أصح القولين، والتقدير: أيعرضون عن كتاب الله فلا يتدبرون القرآن؟! وقال رحمه الله: وما تضمنته هذه الآية الكريمة من التوبيخ والإنكار على من أعرض عن تدبر كتاب الله جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢]، وقوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون: ٦٨]، وقوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [ص: ٢٩].
وقد ذم جل وعلا المعرض عن هذا القرآن العظيم في آيات كثيرة، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا﴾ [الكهف: ٥٧].
وقال الشنقيطي أيضاً: وقد شكا النبي ﷺ إلى ربه من هجر قومه هذا القرآن، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: ٣٠].
وكما ذمت النصوص من لا يتدبر القرآن ففي الجانب الآخر مدحت وأثنت على من تدبر القرآن وتعلمه وعمل به، فجعلهم ﷺ خير الناس، فكما أن خير الكلام كلام الله فكذلك خير طلبة العلم من طلب علم القرآن، فالقرآن أفضل وأكمل وأعظم ما يشتغل به، وقد وردت خيرية هذا في حديث عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فخير العلماء من علم القرآن، وخير المتعلمين من تعلم القرآن، وقد وصف النبي ﷺ أهل القرآن فقال: (أهل القرآن هم أهل الله وخاصته).
وقال تعالى: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران: ٧٩].
قال البغوي في تفسيرها: قال ابن عباس: ((كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)) أي: كونوا فقهاء معلمين.
وقيل: سمى العلماء ربانيين لأنهم يربون العلم، أي: يقومون به، يقال لكل من قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربه يربه، فهو رباً له، وقيل: سمو ربانيين لأنهم يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها، وزيدت الألف والنون للمبالغة في النسب، وقيل: (الربانيون): هم العلماء بالحلال والحرام.


الصفحة التالية
Icon