معنى المعية المذكورة في قوله تعالى: (والله معكم)
قوله: تبارك وتعالى: ((فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ)).
والمعية هنا معية خاصة؛ لأن الخطاب هنا للمؤمنين.
وقد جاءت النصوص في القرآن الكريم تثبت أن معية الله سبحانه وتعالى لعباده نوعان: النوع الأول: معية الله الخاصة بالمتقين المحسنين، قال عز وجل هنا في هذه الآية: ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٥].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨].
وقال تعالى: ((لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)).
وقال تعالى: ﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٦٢].
وقال تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) [الأنفال: ١٢].
وقوله عز وجل: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: ٤٠].
النوع الثاني: المعية العامة لجميع الخلق، كقوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ [المجادلة: ٧].
وقال عز وجل: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))، وقال: ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾ [الأعراف: ٧]، أي: بل نحن معهم.
وقال تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [يونس: ٦١].
إذاً: فهناك آيات فيها إثبات المعية الخاصة، وهناك آيات فيها إثبات المعية العامة، ووجه الجمع بينهما: أن المعية الخاصة تكون بالنصر والتأييد والإعانة، وهذه خاصة بالمتقين المحسنين، كما قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨]، وما سبق من الآيات المذكورة.
وأما المعية العامة فهي لجميع الخلق بالإحاطة والعلم، فهو تعالى أعظم وأكبر من كل شيء، وهو محيط بكل شيء، وجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل في يد أحدنا ولله المثل الأعلى، وهذه المعية عامة لكل الخلائق، كما دلت عليه الآيات المتقدمة.
وقال الله تبارك وتعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))، وهذا يدل على أنه تعالى مستوٍ على عرشه، عالٍ على جميع خلقه.
وقال أيضاً: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))، وليس بين هاتين الآيتين اختلاف ولا تضاد، فالله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه استواءً لائقاً بكماله وجلاله بلا تكييف ولا تشبيه، وجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل، فهو محيط بجميع الخلائق بالعلم التام، ونفوذ القدرة.
إذاً: لا منافاة بين علوه على عرشه، ومعيته لجميع الخلائق، ألا ترى -ولله المثل الأعلى- أن أحدنا لو جعل في يده حبة من خردل -وهي أصغر الحبوب على الإطلاق- فإنه لا يكون داخلاً في شيء من أجزاء هذه الحبة مع أنه محيط بجميع أجزائها، فالسماوات والأرض ومن فيهما في يده تعالى أصغر من حبة خردل في يد أحدنا، ولله المثل الأعلى، سبحانه وتعالى علواً كبيراً.
فهو أقرب إلى الواحد منا من عنق راحلته، بل من حبل وريده، مع أنه مستوٍ على عرشه، ولا يخفى عليه شيء من عمل خلقه جل وعلا.