المراد من قوله: (ما تقدم من ذنبك وما تأخر)
قوله تبارك وتعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، هو كقوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [غافر: ٥٥]، وقوله تعالى: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾ [الشرح: ٢]، وقوله: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ [النصر: ٣]، وبعض المفسرين قالوا: معناه ما تقدم من ذنب قبل الرسالة، وما تأخر بعدها.
وقال بعضهم: (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) يعني: من ذنب أبويك آدم وحواء، (وَمَا تَأَخَّرَ) أي: من ذنوب أمته، وما أبعد هذا التفسير عن معنى القرآن كما قال الشيخ صديق حسن خان رحمه الله تعالى! فهذا تأويل بعيد جداً عن قواعد علم التفسير.
وقيل: ما تقدم من ذنب أبيك إبراهيم، وما تأخر من ذنوب النبيين من بعده، وهذا أيضاًً بعيد كالذي قبله.
وقيل: ما تقدم من ذنب يوم بدر، وما تأخر من ذنب يوم حنين، وهذا كالقولين السابقين في البعد عن المدلول، وقوله: ما تقدم من ذنب يوم بدر، هو إشارة إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام يوم بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبداً)، فقال: هذا هو الذنب المتقدم! لكن هذا يحمل على الوجه الصحيح، حيث لم يكن على الأرض مسلمون غير تلك الفئة؛ فليس فيها أي معنى محذور، وقوله: (وَمَا تَأَخَّرَ) أي: يوم حنين، هو إشارة لما روى أنه لما رمى المشركين بالحصباء قال: (لو لم أرمهم لم ينهزموا؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال: ١٧])، وهذا هو المتأخر، وهذا قول بعيد.
وقيل: (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) أي: لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك، وقيل غير ذلك مما لا وجه له، والأول أولى، فيكون المراد بالذنب الأول هو ما تقدم من ذنب قبل الرسالة، وما تأخر بعد الرسالة، والمراد بالذنب بعد الرسالة ترك ما هو الأولى، وسمي ذنباً في حقه لجلالة قدره عليه الصلاة والسلام، وإن لم يكن ذنباًً في حق غيره، فهو من باب: (حسنات الأبرار سيئات المقربين).
وقوله تعالى: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾ [الشرح: ٢ - ٣]، الوضع يكون للحط والتخفيف، ويكون للحمل والتثقيل، فإن عدي بـ (عن) كان للحط كقوله: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾، وإن عدي بـ (على) كان المعنى الحمل، فوضعت عنك، غير وضعت عليك.
والوزر لغة: الثقل قال تعالى: ﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ [محمد: ٤] أي: ثقلها من سلاح ونحوه، ومنه الوزير؛ لأنه يتحمل ثقل أميره وشغله.
والوزر شرعاً: هو الذنب، كما في الحديث: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، وقد يترادفان في التعبير، كقوله تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً﴾ [النحل: ٢٥]، وقوله: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت: ١٣]، أفرد لفظ الوزر هنا وأطلق، ولم يبين ما هو وما نوعه، فلذلك اختلف المفسرون فيه اختلافاً كبيراً كقوله: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾، قيل: ما كان فيه من أمر الجاهلية، وحفظه من مشاركته معهم، فلم يلحقه شيء منه، مع أنك كنت بعيداً عن أهل الجاهلية، لكن وضعنا عنك وزرك، أي: حفظناك من أن تفعل ما كان يفعله الجاهليون، وقيل: ثقل تألمه مما كان عليه أمر الناس ولم يستطع تغييره، وشفقته ﷺ بهم، يعني: أن هذه الآية: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) كقوله تعالى -على هذا التفسير-: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: ٦]، يعني: أسفاً عليهم.
وقال أبو حيان: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ): كناية عن عصمته ﷺ من الذنوب، وتطهيره من الأوزار.
ومهما يكن من شيء فإن عصمة النبي ﷺ من الكبائر والصغائر بعد البعثة يجب القطع بها؛ لنص القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١] ولوجوب التأسي به، وامتناع أن يكون في شيء من ذلك خطأ، فحكمة الله أن جعل الأنبياء معصومين؛ لأننا مأمورون بالاقتداء بهم في أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم، فلا شك أن النبي ﷺ بعد الرسالة معصوم من الصغائر والكبائر، أما قبل البعثة فلا شك في العصمة من الكبائر أيضاً؛ لأنه كان في مقام التهيؤ للنبوة منذ صغره، وقد شق صدره الشريف في سن الرضاع، وأخرج منه حظ الشيطان، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، ثم إنه لو كان قد وقع منه شيء لأخذوه عليه حين عارضوه في دعوته، ولم يذكر من ذلك شيء، فلم يبق إلا القول في الصغائر، فهي دائرة بين الجواز والمنع، فإن كانت بعد البعثة فهو معصوم من الصغائر والكبائر، وقبل البعثة فقطعاً هو معصوم من الكبائر، أما الصغائر فالأمر يدور فيها بين جواز وقوع ذلك أو منعه، وإن كانت جائزة الوقوع فوقعت فإنها لا تمس بمقامه صلى الله عليه وسلم؛ لأنها وقعت قبل البعثة وقبل التكليف، وقد غفرت وحط عنه ثقلها، فإن لم تقع ولم تكن جائزة في حقه فهذا هو المطلوب.
وقد ساق الألوسي رحمه الله تعالى خبر أن عمه أبا طالب قال لأخيه العباس يوماً: لقد ضممته إلي وما فارقته ليلاً ولا نهاراً، ولا ائتمنت عليه أحداً، وذكر قصة مبيته ومنامه في وسط أولاده أول الليل، ثم نقله إياه محل أحد أبنائه حفاظاً عليه، ثم قال: ولم أر منه كذبة ولا ضحكاً ولا جاهلية، ولا وقف مع الصبيان وهم يلعبون.
ومما جاء في كتب التفسير: أنه عليه الصلاة والسلام أراد مرة في شبابه أن يذهب إلى مكان عرس ليرى ما فيه، فلما دنا منه أخذه النوم، ولم يستيقظ إلا على حر الشمس، فصانه الله من رؤية أو سماع شيء من ذلك، ومنه قصة مشاركته في بناء الكعبة، حين سقط منه الرداء ومنع منه وفي الحال استتر، فهذه أدلة أصحاب المذهب الذي يرى أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم حتى من الصغائر قبل البعثة.
فما هو الجواب عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾ [الشرح: ٢]؟ ما هو هذا الوزر؟ ولماذا قال: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [غافر: ٥٥]؟ قيل في
ﷺ إنه تكريم له صلى الله عليه وسلم، فكلمة: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) هذا تكريم له، وكما جاء في أهل بدر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، مع أنهم لم يفعلوا محرماً، ولكنه تكرم منه لهم، ورفع لمنزلتهم، وقد كان ﷺ يتوب ويستغفر، ويقوم الليل حتى تورمت قدماه فقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً)، فكان كل ذلك منه شكراً لله تعالى ورفعاً لدرجاته صلى الله عليه وسلم، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قال في أحد أصحابه -وهو صهيب رضي الله عنه-: (نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه)، وصهيب حسنة من حسنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان ﷺ إذا خرج من الخلاء يقول: (غفرانك)، فبالنسبة لمقامه الشريف هو يرى أنه توقف لسانه عن الذكر، وبلا شك أنه كان يذكر الله بقلبه حتى في حال التخلي، لكن كان يضطر إيقاف لسانه عن ذكر الله في هذه الفترة التي لا يليق فيها ذكر الله سبحانه وتعالى باللسان، ويقتصر على ذكر الله بالقلب، فنظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن هذا منه ذنب وتقصير، حيث حرم من ذكر الله باللسان، فكان إذا خرج من الخلاء قال: (غفرانك)، يعني: لإمساك لساني عن ذكرك في هذه الحال، فهو سأل الله المغفرة مع أنه لم يأت في الحقيقة بموجب للاستغفار، وإنما شعوره بترك الذكر في تلك الحالة هو الذي استوجب منه الاستغفار، وقد استحسن العلماء قول الجنيد: (حسنات الأبرار سيئات المقربين)، فالمسألة نسبية بالنسبة لمقام العبد عند الله سبحانه وتعالى، وإذا كان هذا في حق أمهات المؤمنين: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ [الأحزاب: ٣٢]، إلى آخر الآية، وقال: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا﴾ [الأحزاب: ٣٠ - ٣١]، وهذا لعظم مقامهن، فإذا صدر من أي أم من أمهات المؤمنين ذنب فإنه يضاعف لها العذاب؛ لشرف وعلو مقامها عند الله سبحانه وتعالى في الجهتين، فما بالك بالنبي نفسه صلى الله عليه وآله وسلم؟! أو أن المراد بمثل هذه الآيات: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾ [الشرح: ٢]، ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [غافر: ٥٥]، هو ما جاء في القرآن الكريم من بعض اجتهاداته ﷺ في سبيل الدعوة، فما ظن أنه ذنب في حق النبي صلى الله عليه وسلم، أو وصفه ربه على أنه ذنب فهو في الحقيقة واحد من اثنين: إما أنه من باب ترك الأولى، وهو ذنب بالنسبة لمقامه الشريف، أو أنه ﷺ اجتهد وظن أن في هذا الأمر الذي فعله رضوان الله، فبعد ما فعله أعلم أن رضاء الله كان في الاجتهاد الآخر؛ فعد ذنباً في حقه صلى الله عليه وآله وسلم، أما أن يتعمد معصية فلا وألف لا، ومثال


الصفحة التالية
Icon