أخذ النبي ﷺ بالشورى
نشرح هذا الحديث في قصة الحديبية.
قوله: (خرج رسول الله ﷺ زمن الحديبية).
إما أن نقول: الحديبيَّة أو الحديْبِية: وهي بئر سمي المكان بها، وقيل: شجرة حدباء صغرت، وسمي المكان بها، وقال المحب الطبري: الحديبية قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم.
وعند ابن سعد: أنه ﷺ خرج يوم الإثنين لهلال ذي القعدة، وفي بعض الروايات: (في بضع عشرة مائة، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره، وأحرم منها بعمرة، وبعث عيناً له من خزاعة).
يقول: (خرج رسول الله ﷺ زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين).
هذا الموضع اختصره الإمام البخاري وفي كتاب المغازي ذكره بشيء من التفصيل عن الزهري قال: (وسار النبي ﷺ حتى كان بغدير الأشطاط -جمع شط- وهو جانب الوادي- أتاه عينه - يعني: الجاسوس الذي يتحسس الأخبار- فقال: إن قريشاً جمعوا جموعاً، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك! فقال: أشيروا عليّ أيها الناس! أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟! فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين، وإلا تركناهم محروبين، قال أبو بكر: يا رسول الله! خرجت عامداً لهذا البيت، لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: امضوا على اسم الله).
وقال الزهري: وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: (ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وذلك كان امتثالاً منه لأمر الله عز وجل: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ [آل عمران: ١٥٩]، وامتدح المؤمنين فقال: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: ٣٨]، فمع أنه كان مؤيداً بالوحي، ومع أنه هو المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم، لكن مع ذلك أراد أن يسن فيهم سنة الشورى.
إن الشورى لها كثير جداً من الفوائد حيث فيها ضم عقل إلى عقل، وتجربة إلى تجربة، فتكون المحصلة غالباً خيراً للمسلمين، أما إذا استبد أحد بالأمر، خاصة في الأمور الجامعة العظيمة، وأمضى رأيه دون مشاورة الباقين، وحصلت أي مصيبة أو أية أضرار فإنه هو الملوم وحده، أما إذا شاور فإنه لا يتعرض لنفس القدر من اللوم، بل يكون هذا من تقدير الله عز وجل والمشاورة سنة من سنن النبي عليه الصلاة والسلام، وينبغي مشاورة العقلاء والحكماء والعلماء.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟!) هؤلاء الذين تحالفوا مع قريش وعاونوهم وأتوا ليصدوا المسلمين عن البيت، فشاورهم فقال: (هل نميل إلى هؤلاء ونقتل ذراريهم ونصيبهم في أهليهم؛ لأنهم غدروا وأعانوا قريشاً، فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين، وإن يجيئوا تكن عنقاً قطعها الله سبحانه وتعالى؟!) المراد: أن النبي ﷺ استشار أصحابه هل يخالف الذين نصروا قريشاً إلى مواضعهم، ويتجه إلى بيوتهم وخيامهم، فيسبي أهلهم، فإن جاءوا إلى نصرهم اشتغلوا بهم، وانفرد هو وأصحابه بقريش، هذا هو المراد بقوله: (تكن عنقاً قطعها الله) فأشار عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بترك القتال والاستمرار على ما خرج له من العمرة، حتى يكون بدء القتال منهم، فرجع إلى رأي أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وفي رواية أحمد: (فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم يا نبي الله! إنما جئنا معتمرين) إلى آخر ما ذكرناه.