قوة فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: (وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول) انظروا إلى حلاوة فصاحة النبي ﷺ وبلاغته، فيقول: (إن قريشاً قد نهكتهم الحرب) أي: أبلغت فيهم حتى أضعفتهم، إما أضعفت قوتهم أو أضعفت أموالهم، (فإن شاءوا ماددتهم) يعني: جعلت بيني وبينهم مدة، فيترك الحرب بيننا وبينهم خلال هذه المدة، هذا معنى (فإن شاءوا ماددتهم) أي: اتفقت معهم على مدة تتوقف فيها الحرب (ويخلوا بيني وبين الناس) أي: من كفار العرب وغيرهم، وهذا هو سر تسمية صلح الحديبية فتحاً كما سنبين إن شاء الله تعالى، وقد كان فتحاً عظيماً جداً بكل معنى الكلمة، والسر هو في هذه الجملة بالذات، في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويخلوا بيني وبين الناس) يعني: لما توقفت الحروب بدأت الحمية تهدأ عند أهل الشرك، وبدأ الكافر يستمع إلى المؤمن، ويعرض عليه الإسلام ومحاسنه، فكان هذا سبباً في دخول الناس في دين الله أفواجاً.
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس) أعظم فتح للإسلام أن يخلى بين المسلمين الدعاة وبين الناس، ولا تكون هناك حواجز وموانع، وتشويش وتشنيع، إذا حصل ذلك فإن الناس سيدخلون في دين الله أفواجاً، فهذا نصر بكل معنى الكلمة، والإسلام في أي مكان وفي أي زمان إذا سمح بأن يتكلم أهله بحرية حقيقية، ولم تشن عليهم الحملات الشيطانية من وصفهم بإرهابيين ومتطرفين، ونحو هذه الاصطلاحات الغريبة التي تصد الناس عن دين الله سبحانه وتعالى، وكان المتكلمون باسم الإسلام أناساً على وعي وعلم وبصيرة؛ فالغالب أن العمي المقلدين الجهلة من الناس ينقادون -وأيضاً علماؤهم وعقلاؤهم- ويدخلون في دين الله أفواجاً، لكن الذي يحصل -وهو أقوى سلاح من أسلحة الباطل- التشويه الظالم، وعدم معرفة شرف الخصومة، وإلا فلا يمكن للإسلام أن ينهزم أبداً في معركة شريفة، سواء كانت معركة قتالية أو معركة فكرية، ففي المعركة القتالية المسلم في كل حال لا يهزم، ولا تنسب له هزيمة أبداً إذا قتل في سبيل الله، وهذا هو الذي دلنا عليه القرآن الكريم، فقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ﴾ [النساء: ٧٤] لم يقل: ويهزم أو يُغلب، بل قال: (فيقتل أو يغلب) هذان الخياران هما اللذان سماهما الله سبحانه وتعالى إحدى الحسنيين في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ َ﴾ [التوبة: ٥٢] الحسنى مؤنث أحسن وليس مؤنث حسن، يعني: أن كلاً منهما أحسن من الآخر، فهي نصر أو شهادة، فالشهيد في الحقيقة لا يسقط وإنما يرتفع، قال تعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: ١٦٩]؛ ولهذا يرتعد أعداء الإسلام دائماً من كلمة الجهاد، وإذا ذكر فإنهم يرتعشون ويرتعدون؛ لأنهم عرفوا خلال قرون طويلة ما معنى هذا الكلمة وتأثيرها عند المسلمين الذين يحبون الموت والقتل في سبيل الله كما يحبون هم الحياة ويعبدونها، فالمؤمن لا تنسب إليه هزيمة: (فيقتل أو يغلب) يقتل في سبيل الله أو يغلب وهي عزة الدنيا، أما الهزيمة فلا يهزم أبداً.
كذلك أيضاً في المناظرات العلمية والفكرية إذا تصدر للنقاش والمناظرة من هو من أهل العلم والحق والبصيرة فلا يمكن أن ينهزم لضعف حجة أبداً، ولا يمكن أن يقف الباطل على الإطلاق أمام عالم مسلم يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، ويحاج الناس بالأدلة، والشيء الوحيد الذي يحصل فيه غير ذلك هو التشويه المتعمد، وتنفير الناس وصدهم عن سبيل الله سبحانه وتعالى بالحيل الشيطانية أو بالقهر أو غيره من الأساليب الغير الشريفة كما قلنا.
فلذلك هذه العبارة في الحقيقة هي في غاية الأهمية فلا تمرن عليكم مرور الكرام، (فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس) أي: يستمعون دعوتي بدون تشويه وبدون حمية جاهلية تصد عن سبيل الله، هذا هو جوهر الفتح في صلح الحديبية.
قال: (فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا) يا للفصاحة! يا لفصاحة خير من نطق بالضاد صلى الله عليه وآله وسلم! يقول لهم: (فإن أظهر فإن شاءوا) هذا شرط بعد شرط، (فإن أظهر) شرط (وإن شاءوا) شرط يعني: جاء بعد أداة الشرط الأولى جواب مقدر، والتقدير: فإن ظهر غيرهم علي كفاهم المؤنة، فإن أحد من المشركين غير هؤلاء القرشيين الذين يعاهدونني في هذا الصلح أتى وغلبني وقضى علي، فقد كفاهم المؤنة وأراحهم مني، (وإن أظهر) أنا على غيرهم فإن شاءوا أطاعوني، وإلا فلا تنقضي مدة الصلح إلا وقد جموا يعني: قد استراحوا، وفي رواية ابن إسحاق: (وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة) سيكونون واستراحوا في هذه المدة، وتلاحظون هنا اللباقة والكياسة، انظر كيفية إقناعهم بأن يقبلوا الصلح، وغرض النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك هو كما صدر في بداية الكلام: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها) الهدف: هو تعظيم حرمات الله، وعدم حصول قتال في الحرم، وفي حالة الإحرام، وفي الشهر الحرام.


الصفحة التالية
Icon