هروب أبي بصير من مكة إلى المدينة
قال: ثم رجع النبي ﷺ إلى المدينة، فجاءه أبو بصير -رجل من قريش- وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين -وهو غير أبي جندل، هرب من مكة إلى المدينة- فأتوا النبي عليه السلام فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فمن بنود المعاهدة: أن من أتاك من عندنا ولو كان على دينك فلابد أن ترده إلينا، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، يعني: سلمه لهما النبي صلى الله عليه وسلم، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة.
قوله: (ثم رجع النبي ﷺ إلى المدينة فجاءه أبو بصير وهو رجل من قريش) عتبة بن أسيد بن جارية حليف بني زهرة.
فمعنى قوله: (رجل من قريش) يعني: من الحرم؛ لأن بني زهرة من قريش.
(فأرسلوا في طلبه رجلين) وفي بعض الروايات: فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام، فقالا للنبي عليه الصلاة والسلام: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، وفي رواية ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بصير! إن هؤلاء القوم صالحونا على ما علمت، وإنا لا نغدر، فالحق بقومك فقال: أتردني إلى المشركين يفتنونني عن ديني ويعذبونني؟! قال: اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً).
وفي رواية أبي مليح: (فقال له عمر -وهذه قصة عمر مرة أخرى-: أنت رجل وهو رجل ومعك السيف) وهذا أوضح في التعريض لقتله، واستدل بعض الشافعية بهذه القصة على جواز دفع المطلوب لمن ليس من عشيرته إذا كان لا يخشى عليه منهم؛ لكونه ﷺ دفع أبا بصير للعامري ورفيقه، ولم يكونا من عشيرته ولا من رهطه، لكنه أمن عليه منهما؛ لعلمه بأنه كان أقوى منهما، ولهذا آل الأمر إلى أنه قتل أحدهما وأراد قتل الآخر.
وفيما استدل به لذلك نظر؛ لأن العامري ورفيقه كانا رسولين من قريش، ولو كان فيهما ريبة لما أرسلهما من هو من عشيرته.
وأيضاً وقع في رواية أبي مليح: جاء أبو بصير مسلماً وجاء وليه خلفه فقال: يا محمد! رده علي، فرده.
المهم أنه دفعه لهذين الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله! إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به، ثم جربت به، ثم جربت به! فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله ﷺ حين رآه: (لقد رأى هذا ذعراً)، فلما انتهى إلى النبي ﷺ قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول، فجاء أبو بصير فقال: (يا نبي الله! قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم) يعني: أوفى الله ذمتك فأنت لم تغدر فقد سلمتني لهم، لكن هأنذا الآن عائد إليك مرة ثانية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه مسعر حرب! لو كان له أحد)، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.
قوله: (فنزلوا يأكلون من تمر لهم) وفي رواية الواقدي: (فلما كانوا بذي الحليفة دخل أبو بصير المسجد فصلى ركعتين وجلس يتغدى ودعاهما فقدم سفرة لهما فأكلوا جميعاً).
قوله: (فقال أبو بصير لأحد الرجلين) وقوله: (فاستله الآخر) يعني: صاحب السيف أخرجه من غمده، قوله: (فأمكنه منه) أي: بيده، قوله: (فضربه حتى برد) أي: حتى خمدت حواسه، وهذا كناية عن الموت؛ لأن الذي يموت يبرد جسمه، لأن الميت تسكن حركته، وأصل البرد السكون، وفي رواية ابن إسحاق (فعلاه حتى قتله).
قوله: (وفر الآخر) وفي رواية أخرى: (وخرج المولى يشتد) أي: هرب.
قول النبي ﷺ لما رآه: (لقد رأى هذا ذعراً) أي: خوفاً، وفي رواية: (فزعاً)، فقال: قتل والله صاحبي، وفي رواية أخرى: (قتل صاحبكم صاحبي وإني لمقتول) يعني: إن لم تردوه عني، وعند الواقدي: (وقد أفلت منه ولم أكد).
وفي رواية: فرده رسول الله ﷺ إليهما فأوثقاه حتى إذا كان ببعض الطريق ناما، فتناول السيف بفيه فأمره على الوثاق فقطعه، وضرب أحدهما بالسيف، وطلب الآخر فهرب، والأول أصح، يعني: الرواية التي ذكرناها آنفاً هي الأصح.
وعند ابن عائذ في المغازي: وهرب الآخر وأتبعه أبو بصير، فبالتالي هو يجري وأبو بصير وراءه حتى وصل إلى المدينة، حتى دفع إلى رسول الله ﷺ في أصحابه وهو عاض على أسفل ثوبه، وقد بدا طرف عورته، والحصى يطير من تحت قدميه من شدة عدوه وأبو بصير يتبعه.
فجاء أبو بصير فقال: (يا نبي الله! قد والله أوفى الله ذمتك) يعني: ليس عليك منهم عقاب فيما صنعته أنا، وفي رواية: فقال أبو بصير: (يا رسول الله! عرفت أني إن قدمت إليهم فتنوني عن ديني؛ ففعلت ما فعل، وليس بيني وبينهم عهد ولا عقد).
وفيه أن للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب رده إذا شرط لهم ذلك؛ لأن النبي ﷺ لم ينكر على أبي بصير قتله العامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية.
وكما قلنا: يسع الفرد ما لا يسع الجماعة، يعني: حينما يكون التفسير للمجموع لا شك أن المعادلة تختلف، وتحتاج إلى موازنات واعتبارات بخلاف ما لو كان الشخص مسئولاً عن نفسه، وبخلاف ما لو كان هو يتصدر باسمه نفسه وحده، ففي هذه الحالة يسع الفرد ما لا يسع الجماعة، وهذه الحادثة دليل واضح على هذه القاعدة المهمة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه مسعر حرب! لو كان له أحد)، (ويل أمه)، هذه كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، يعني: ظاهرها هي فيها ذم (ويل أمه) ولكن أحياناً يستعملونها في المدح؛ لأن الويل هو الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل.
قال بديع الزمان في رسالة له: والعرب تطلق (تربت يمينه) في الأمر إذا أهم، ويقولون: (ويل أمه) ولا يقصدون الذم، والويل: يطلق على العذاب والحرب والزجر، وفي حديث أن الرسول قال للأعرابي: (ويلك)، وأصل قولهم: (ويل فلان) يعني: وي لفلان، فكثر الاستعمال فألحقوا بها اللام فصارت ويل، وهي أصلاً: وي لفلان، فلما كثر استعمالها ألحقوا اللام بالياء فصارت (ويل)، وقيل: إن (وي) كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها اتباعاً للهمزة وحذفت الهمزة تخفيفاً، والله تعالى أعلم.
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه مِسعر حرب)، قال الخطابي: يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها.
(ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد) يعني: لو كان له أحد ينصره ويعاضده ويناصره، والمراد: هذا الرجل لو انضم إليه رجل مثله فسيشعلونها ناراً وحرباً، وفي رواية الأوزاعي: (لو كان له رجال)، فلقنها أبو بصير أي: التقط هذه الكلمة، (فانطلق وهرب)، ففيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين، فهذه إشارة إليه بأنك إن بقيت هنا سنسلمك، وإن كنت تستطيع أن تفر ففر، وأيضاً لو انضممت لأحد سيكون ما يكون، فكأنه أشار عليه بالفرار دون أن يصرح بذلك، لئلا يرده إلى المشركين، ورمز إلى من بلغه ذلك من المسلمين أن يلحقوا به، فإن المسلمين على هذه الظروف سيأتون من مكة إلى المدينة، فلذلك عليهم أن يتجمعوا مع بعض، ولن نكون مسئولين عنهم، قال جمهور العلماء من الشافعية وغيرهم: يجوز التعريض بذلك لا التصريح، كما في هذه القصة، والله أعلم.
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر، أي: ساحل البحر، وعين ابن إسحاق المكان الذي نزل فيه فقال: وكان طريق أهل مكة إذا قصدوا الشام وهو يحاذي المدينة إلى جهة الساحل وهو قريب من بلاد بني سليم، قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بـ أبي بصير وكان مأسوراً في مكة، فلما هرب أبو بصير استطاع أن يهرب أيضاً، فلحق بـ أبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بـ أبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم: يعني عملوا جميعاً حرب عصابات، كلما تأتي قافلة من قريش ذاهبة إلى الشام بالتجارة يقطعون عليها الطريق، ويأخذون ما معهم، ويقتلون المشركين.
فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه سلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، أي: من يأتيك إلى المدينة يكون آمناً، ولا ترده إلينا، فتراجعوا عن هذا الشرط! فأرسل النبي ﷺ إليهم وأنزل الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ [الفتح: ٢٤]، حتى بلغ ﴿الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ [الفتح: ٢٦]) وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت.
(فأرسل النبي ﷺ إليهم) يعني: أرسل إلى هذه العصابة من الصحابة، وفي بعض الروايات: (فبعث إليهم فقدموا عليه) وعند الزهري: فكتب رسول الله ﷺ إلى أبي بصير فقدم كتابه وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله ﷺ في يده، فدفنه أبو جندل مكانه إلى أن قال: وقدم أبو جندل ومن معه إلى المدينة فلم يزل بها إلى أن خرج إلى الش