تفسير قوله تعالى: (ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد)
يقول تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [ق: ٢٩].
تلاحظون دقة كلام المفسرين، فهم لما فسروا ﴿لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ﴾ قالوا: لا اختصام مسموع عندي.
وقالوا: إنه ليس المقصود النهي عن هذا الخصام والجدال والمحاورة التي تحصل بين السادة والأتباع، أو بين الأقوياء والمستضعفين، لا، بل المقصود أن اختصامكم هذا لا فائدة فيه، لأن غاية ما تؤملونه أن يحصل تغيير في مصيركم، وفي الحكم الذي صدر عليكم من دخول النار، وهذا الحكم لا يمكن أن يبدل، وقد قامت عليكم الحجة في دار العمل، وأنتم الآن في دار الجزاء فلا سبيل على الإطلاق لتبديل ما قضى الله به عليكم؛ لأنه ثبت وصح تقديم الوعيد وكنتم تستطيعون في وقت العمل وفي دار العمل أن تنتفعوا، أما الآن فهي دار الجزاء، ((مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)) أي: ماذا تؤملون وما هي الثمرة التي ترجونها من وراء الخصام؟ هل تظنون أنكم بهذا الخصام واتهام بعضكم بعض وتبرؤ بعضكم من بعض أن هذا سينفعكم، أو يعفيكم من العذاب؟ لا ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [ق: ٢٩].
قال ابن جرير: ما يغير القول الذي قلته لكم في الدنيا وهو قوله: ﴿لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [السجدة: ١٣] ولا قضائي الذي قضيته فيهم فيها.
﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ أي: فلا أعذب أحداً بذنب غيره، ولكن بذنبه بعد قيام الحجة عليه، وهذه كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: ٣٦ - ٣٩]، فيلزم من هذا ما يعتقده بعض الكفار النصارى من أن البشرية كلها ملطخة بوزر آدم في نظرهم، ولأجل ذلك حصل موضوع الصلب والفداء والتعميد والتوثيق، من أجل أن يزال عن الطفل البريء هذا الوزر الذي ورثه من آدم.
فاليوم الذي ولد فيه الطفل هو أسود يوم في حياته؛ لأنه خرج إلى هذه الحياة وهو مسئول عن خطيئة آدم بزعمهم، وهذا شيء ترفضه الفطرة السليمة، لكن انظر إلى دين الفطرة فالإنسان يعمل بعض الأعمال الصالحة فيكون قد رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وهو أسعد يوم عنده؛ لأنه إنسان بريء على الفطرة، طاهر ما تلوث بخطيئة، ولا كتبت عليه خطيئة، فلذلك جاء في الحديث: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، أما عند النصارى فأول ما ينتقل الطفل إلى الحياة الدنيا فإنه يتحمل خطيئة آدم.
ملايين البشر يولدون ملوثين بما يسمونه خطيئة آدم، مع أن الله تعالى قد غفر لآدم خطيئته قبل إهباطه إلى الأرض، قال تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٣٧].
فهذا من نسبة الظلم إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا مما يتنزه عنه الله سبحانه وتعالى، كيف يعاقب ابن بخطيئة أبيه؟ هذا ينافي بداهة العقول.
﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ يقول القاسمي: ظاهر الآيات أن هذا التقاول على حقيقته إذ لا مانع منها، وذهب بعض المفسرين إلى أنها مجاز.
أنا أعجب كيف أن القاسمي مع أنه إمام جليل من أئمة السلفية الحقة ينقل مثل هذا الكلام ثم لا يهدمه هدماً، يقول: قال القاشاني: هذه المقاولات كلها معنوية مثلت على سبيل التخييل والتصوير، لاستحكام المعنى في القلب عند ارتسام مثاله في الخيال، فادعاء الكافر الإطغاء على الشيطان وإنكار الشيطان إياه عبارة عن التنازع والتجاذب الواقع بين قوتيه الوهمية والعقلية والغضبية والشهوية، ولهذا قال: ((لا تَخْتَصِمُوا)) إلى آخره.
هذا كلام كان يجب طرحه ولا تجوز حكايته؛ لأنه انحراف في تأويل القرآن الكريم، وإفساد لمعاني القرآن، ما الذي يمنع إرادة الحقيقة؟ ثم هذا فتح لباب التأويلات الباطنية، وإبطال لمعاني القرآن الكريم، فما كان ينبغي للقاسمي عفا الله عنه ورحمه الله أن يحكي مثل هذا الكلام إلا بنية إبطاله والرد عليه.


الصفحة التالية
Icon