تفسير قوله تعالى: (وأمددناهم بفاكهة ولهم مما يشتهون يتنازعون فيها كأساً)
قال تعالى: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ [الطور: ٢٢] قوله: ((وأمددناهم)) في هذا أن المدد مستمر، يعني: زدناهم وقتاً بعد وقت، فهو مدد متجدد ومستمر.
قوله تعالى: ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا﴾ [الطور: ٢٣] يعني: يتعاطون فيها كأس الشراب ويتجاذبونها، ويتناول بعضهم من بعض كأساً، والمقصود بالكأس ما فيه من خمر الجنة، وخمر الجنة يشربها من امتنع من خمر الدنيا، وخمر الدنيا بالعكس تماماً في كل صفاتها بالنسبة لخمر الجنة، فخمر الجنة قال الله عز وجل فيها: ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ [محمد: ١٥] وخمر الجنة لا تذهب العقل، وليست خبيثة في الرائحة كخمر الدنيا، وهي طاهرة وليست نجسة كخمر الدنيا، وهكذا كل صفات خمر الدنيا تنافي الصفات الثابتة لخمر الجنة، فمن شرب الخمر ولبس الحرير في الدنيا، فإنه يحرم من ذلك في الآخرة، ولا يشرب من خمر الجنة، ومن امتنع من خمر الدنيا ابتغاء رضوان الله فإنه يكافئ بأن يشربها في الجنة.
قوله: ((يَتَنَازَعُونَ فِيهَا))، كأن المؤمنين ومن ألحق بهم من ذريتهم، أو أهل الإيمان مع بعضهم البعض يتعاطون في الجنة كأس الشراب ويتجاذبونها ويتناول بعضهم من بعض.
وقوله: ((كَأْسًا)) المقصود بالكأس: الخمر؛ لأن الإناء الفارغ لا يطلق عليه كأس في لغة العرب، فلا تكاد العرب تستعمل كلمة كأس إلا فيما هو مملوء، فكأس هنا المقصود به كأس خمر.
والتنازع لغة: يطلق على كل تعاط وتناول، فكل قوم يعطي بعضهم بعضاً شيئاً ويناوله أياه، فهم يتنازعونه كتنازع كئوس الشراب والكلام، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه في الشراب قول الأخطل: وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري قوله: (وشارب مربح) المربح هو: الذي ينحر لضيفانه الربح وهي الفصلان.
وقوله: (بالكأس نادمني لا بالحصور) يعني: ليس بخيلاً ضيقاً كالحصير.
وقوله: (ولا فيها بسوار) السوار هو: المعربد الوثاب، يعني: أنهم يعيبونه بأنه إذا شرب ترك بقية في قعر الإناء.
وقوله: (نازعته طيب الراح الشمول وقد) نازعته يعني: ناولته، وهذا هو الشاهد، فالمناولة يطلق عليها المنازعة، ونحن دائماً نظن أن المنازعة هي العراك على شيء معين، ولكن المنازعة قد تطلق على المناولة بين القوم، فهذه تسمى منازعة، وهذا هو الشاهد من البيت.
وقوله: (طيب الراح الشمول) يقصد بذلك الخمر.
وقوله: (وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري) يعني: صاح الدجاج وقت السحر، والمقصود بالدجاج هنا الديكة، لكن إذا قيل: هذه دجاجة، فالمقصود الأنثى.
وقوله: (وحانت وقعة الساري) أي: وقعة الإبل إذا بركت، والساري: هو السائر بالليل.
إذاً: قوله: (نازعته طيب الراح الشمول) يعني: ناولته كئوس الخمر وناولنيها، فإذا كان كل واحد يناول الآخر، فهذا يطلق عليه منازعة.
ومنه المنازعة في الكلام، وذلك بأن يتكلم رجل والآخر يرد عليه، ومنه قول امرئ القيس: ولما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال والكأس تطلق على إناء الخمر، ولا تكاد العرب تطلق الكأس إلا على الإناء المملوء، وهي مؤنثة، فلا يقال: هذا كأس، ولكن يقال: هذه كأس.
وقوله تعالى: ﴿لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ﴾ [الطور: ٢٣]، نلاحظ في القرآن الكريم أنه حيثما ذكر خمر الجنة تجدها دائماً توصف بصفات تتناقض تماماً مع خمر الدنيا، وليس بينهما تشابه إلا في الاسم فقط، وأما الحقيقة فيا بعد ما بينهما! فخمر الجنة التي يتعاطها المؤمنون فيها مخالفة في جميع الصفات لخمر الدنيا، فخمر الآخرة لا لغو فيها، واللغو هو: كل كلام ساقط لا خير فيه، فخمر الآخرة لا تحمل شاربيها على الكلام الخبيث والهذيان؛ لأنها لا تؤثر في عقولهم، بخلاف خمر الدنيا، فإنهم إن شربوها سكروا وطاشت عقولهم، فتكلموا بالكلام الخبيث والهذيان، وكل ذلك من اللغو.
والتأثيم هو: ما ينسب به فاعله إلى الإثم، فخمر الآخرة لا يأثم شاربها بشربها؛ لأنها مباحة له، فيتنعم بلذتها، كما قال الله تعالى: ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ [محمد: ١٥]، ولا تحمل شاربها على أن يفعل إثماً، بخلاف خمر الدنيا، فشاربها يأثم بشربها، ويحمله السكر على الوقوع في المحرمات كالقتل والزنا والقذف.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من مخالفة خمر الآخرة لخمر الدنيا، جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ [الصافات: ٤٥ - ٤٧].
فقوله: ((لا فِيهَا غَوْلٌ)) يعني: ليس فيها غول يغتال العقول فيذهبها كخمر الدنيا.
وقوله: ((وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ)) يعني: لا يسكرون.
وكقوله تعالى: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ﴾ [الواقعة: ١٧ - ١٩].
وقوله: ((لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا)) يعني: لا يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها.
فخلاصة الكلام: أننا ننتبه لهذا دائماً في القرآن، وهو أنه متى ذكرت خمر الجنة نجدها توصف بصفات مناقضة تماماً لصفات خمر الدنيا.
ومن وصف خمر الدنيا قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: ٩٠]، ولذلك فسر بعض العلماء الرجس بأنه النجس، وذهبوا إلى أن الخمر نجسة؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ [الإنسان: ٢١]، فقالوا: هذا الشراب الطهور هو الخمر، فخمر الجنة طهور، والقاعدة: أن صفات خمر الجنة بالعكس من صفات خمر الدنيا، فإذا وصف الله ذلك الشراب بأنه طهور فيفهم منه أن خمر الدنيا ليست بطهور، يعني: أنها نجسة؛ ولذلك عامة أهل المذاهب يفتون في الخمر بأنها نجسة، ويعتبرون الخمر نجسة نجاسة حسية، وفي المسألة نزاع مشهور، وعلى الأقل فالأحوط للإنسان أن يجتنب استعمال الكحول، فما الذي يلجئك أن تتعاطى الكولونيا مثلاً أو العطور التي فيها الكحول، وقد وسع الله عليك بوجود الزيوت العطرية التي تغني عن هذه الخمر المختلف في نجاستها؟ فهل تريد تطييب نفسك أم توسيخها بما هو نجس في رأي المذاهب الأربعة؟! فالاحتياط على الأقل أن الإنسان يتجنب العطور التي فيها هذه الكحول.