تفسير قوله تعالى: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين)
قال تعالى: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾ [الطور: ٢٥] يعني: يتجاذبون أطراف الأحاديث المفضية إلى شكر المنعم، يعني: أن كلامهم ذكر وشكر لله سبحانه وتعالى، ومن تمام النعيم حصول المواجهة كما قال تعالى: ﴿إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: ٤٧]، والتقابل هو: أن يكون الإنسان وجهه في وجه محدثه، وهذا أتم للنعيم وللسرور، فيجلسون يتحادثون، ويسترجعون ذكريات ما كانوا يعانونه في الدنيا، وكيف أنهم صبروا ابتغاء وجه الله، ويسترجعون ما رأوا في الدنيا من البلاء، وحسن صبرهم على هذا البلاء.
فقوله: ((وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)) يعني: يتجاذبون أطراف الأحاديث التي تفضي في النهاية إلى شكر المنعم والتحدث بنعمة الله، وذلك فيه مساءلة بعضهم بعضاً عما مضى لهم في الدنيا، أو مساءلة بعضهم بعضاً: ما الذي أبلغك هذه المنزلة من الأعمال؟ وهكذا.
ومن نماذج هذا الحديث الذي يدور بين أهل الجنة -جعلنا الله وإياكم منهم- ما ذكره الله عز وجل في قوله: ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾ [الطور: ٢٦]، قوله: ((قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ)) أي: في الدنيا، ((فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ)) أي: خائفين من عذاب الله؛ فإن الخوف من عذاب الله هو الذي أوصلهم إلى الأمن من هذا العذاب، وإلى هذا النعيم المقيم.
وقوله تعالى: ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ [الطور: ٢٧] أي: فلم ينج أحد إلا بمنة الله عز وجل، وقوله: ((وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ)) يعني: عذاب النار.
وأصل السموم: الريح الحارة التي تدخل المسام، سميت بها نار جهنم لمشابهتها لها، وإن كان وجه الشبه في النار أقوى، لكنهم لريح السموم أعرف؛ لمشاهدتهم لها في الدنيا، فهذا هو سر تسمية نار جهنم بريح السموم؛ لأن الناس في الدنيا يعرفون ريح السموم ويحسون بها.
وقوله: ﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ﴾ [الطور: ٢٨] أي: نعبده مخلصين له الدين، وقد سبق مراراً وتكراراً لفظ الدعاء يأتي كثيراً جداً مرادفاً للفظ العبادة، كقوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: ٦٠]، وكقوله سبحانه: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [مريم: ٤٨] يعني: وما تعبدون، فكثيراً جداً ما يتناوب هذان اللفظان، فيعبر عن العبادة بالدعاء، وعن الدعاء بالعبادة، وقد صح في الحديث: (الدعاء هو العبادة) وأما حديث: (الدعاء مخ العبادة) فحديث ضعيف.
وقوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ [الطور: ٢٨] البر: المحسن لمن دعاه، وقيل: البر هو: الصادق فيما وعد، أي: لمن عبده وخافه بالهداية والتوفيق.