كلام الشنقيطي في أول سورة الطور
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الأقسام التي أقسم الله بها في أول هذه السورة الكريمة، أقسم ببعضها بخصوصه وأقسم بجميعها في آيات عامة لها ولغيرها.
أما الذي أقسم به منها إقساماً خاصاً فهو: الطور والكتاب المسطور والسقف المرفوع.
يقول الشنقيطي: والأظهر: أن الطور الجبل الذي كلم الله عليه موسى، فقد أقسم الله تعالى بالطور في قوله: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ﴾ [التين: ١ - ٢].
والأظهر أن الكتاب المسطور هو: القرآن العظيم، وقد أكثر الله من الإقسام به في كتابه، كقوله تعالى: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الدخان: ١ - ٢]، وقوله تعالى: ﴿يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ [يس: ١ - ٢].
وقيل: (الكتاب المسطور) هو كتاب الأعمال، يعني: الذي تسجل فيه أعمال العباد.
وقيل غير ذلك.
وقوله: ﴿وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ﴾ [الطور: ٥] هو السماء، وقد أقسم الله بها في كتابه في آيات متعددة، كقوله: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ [الذاريات: ٧]، وقوله: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ [البروج: ١]، وقوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس: ٥].
و (الرَّق) في قوله: ﴿فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ﴾ [الطور: ٣] بفتح الراء: كل ما يكتب فيه من صحيفة وغيرها، وقيل: هو الجلد المرقق ليكتب فيه.
وقوله: ((مَنْشُورٍ))، يعني: مكتوب، ومنه قوله تعالى: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا﴾ [الإسراء: ١٣] يعني: يلقاه مبسوطاً، وقوله تعالى أيضاً: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً﴾ [المدثر: ٥٢].
وقوله: ﴿وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ﴾ [الطور: ٤]: هو البيت المعروف في السماء، المسمى بالضراح، وقيل فيه: معمور لكثرة ما يغشاه من الملائكة المتعبدين، فقد جاء في الحديث: (يزوره كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون إليه بعدها) يعني: أنه يطوف يومياً بالبيت المعمور في السماء سبعون ألف ملك، والذي يحج إليه مرة لا يحج إليه بعد ذلك، بمعنى: أنه يزوره في كل يوم سبعون ألف ملك جديد، ولا يعودون إلى البيت بعد ذلك، وإنما يأتي كل يوم سبعون ألف ملك لم يسبق لهم أن أتوا إلى هذا البيت المعمور في السماء من قبل.
وأما قوله: ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ [الطور: ٦]: ففيه وجهان من التفسير للعلماء: أحدهما: أن المسجور هو الموقد ناراً، قالوا: وسيضطرم البحر يوم القيامة ناراً، ومن هذا المعنى قوله تعالى: ﴿فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾ [غافر: ٧٢] يعني: توقد عليهم النار، فالبحر ماء، ومع ذلك يوصف بأنه مسجور.
وكنا من قبل يصعب علينا جداً تصور كيف يكون البحر مسجوراً والبحر ماء، والمسجور هو الموقد ناراً، فكيف يجتمع الماء والنار؟! وقربت هذه الصورة إلى أذهاننا شيئاً ما حينما حصلت الكارثة منذ عدة سنوات في الصعيد، وذلك لما حصلت سيول شديدة جداً مع حصول احتراق في مستودع بترول، فكانت السيول تحمل البترول، ولأن كثافته أخف كان يرتفع إلى سطح الماء، فالكارثة كانت شديدة بسبب أن الماء كان يتحرك ويحمل فوق ظهره النار، وذلك هو الذي أشاع الدمار والحريق في كل المباني والبيوت، فهذا مما قرب إلينا شيئاً مما كنا لا نتصوره من كون البحر يحمل النار، فاجتمع الماء والنار معاً في الدنيا، فكيف لا يجتمعان حينما تنتهي هذه الحياة؟! إذاً: التفسير الأول: أن المسجور بمعنى الموقد ناراً، أي: أن البحر نفسه يتحول إلى نار، قال العلماء: وسيضطرم البحر يوم القيامة ناراً، ومن هذا المعنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾ [غافر: ٧٢].
الوجه الثاني في تفسير المسجور: أنه بمعنى المملوء، ويسمى البحر بالمسجور؛ لأنه مملوء ماءً، ومن إطلاق المسجور على المملوء قول لبيد بن ربيعة في معلقته: فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورةً متجاوراً قلامها فقوله: مسجورة، أي: عين مملوءة ماءً.
وقول النمر بن تولب العكلي: إذا شاء طالع مسجورة ترى حولها النبع والسماسما والسماسم شجر يتخذ منه القسي والسهام، ومثله أيضاً النبع، فقوله: إذا شاء طالع مسجورة، يعني: عيناً مملوءة ماءً.
هذان الوجهان مذكوران في معنى المسجور، وهما أيضاً مذكوران في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ [التكوير: ٦]، فقوله: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ [التكوير: ٦] يعني: إما أنها سجرت بامتلاءها بالماء، وإما سجرت بمعنى: أوقدت وأضرمت ناراً.
فهذه الجملة السابقة من الآيات في كل قسم من هذه الأقسام أتينا بالأدلة على أنه أقسم الله بها في موضع آخر، لكن هناك قسم عام أقسم به الله يشمل هذه الأشياء وكل ما أقسم الله به، وهو قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ﴾ [الحاقة: ٣٨ - ٣٩]، فالإقسام في هذه الآية عام بكل شيء.


الصفحة التالية
Icon