الكلام على أخوف آية في كتاب الله سبحانه وتعالى
وهذه الآية الكريمة وهي قول الله تبارك وتعالى: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ﴾، من الآيات التي رشحها بعض العلماء بأنها أخوف آية في القرآن الكريم، يعني: كما أن هناك بحثاً معروفاً في علوم التفسير وعلوم القرآن في أرجى آية، هناك بحث آخر في أخوف آية، وقد تكلمنا على الآيات المحتملة لهذا مرات كثيرة، أما أخوف آية فما أظن أننا فصلنا فيها، وإن كان الوقت لا يحتمل التفصيل لكن سنشير إشارة عابرة إلى هذا البحث، فما هي أخوف آية للعصاة في القرآن الكريم؟ قيل: هذه الآية: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ﴾، فإنها تهديد بالحساب، وقيل: أخوف آية قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٠ - ١٣١].
قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: هذه الآية أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه.
يقول الغماري: فالعجب من ضعف العلماء الذين يتحايلون لإباحة صور من الربا بعد سماعهم للآية الكريمة، يا ويلهم من الله سبحانه وتعالى.
وفي سورة الزمر آية مثل هذه في الشدة إن لم تكن أشد منها وهي قوله تبارك وتعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر: ٤٧]، قال الزمخشري: وعيد لهم -يعني: وعيد للذين ظلموا- لا كنه لفظاعته وشناعته، يقول: وهو نظير قوله تعالى في الوعد: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة: ١٧]، هذا في الوعد والثواب، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، أما هذه فقيل: إنها في الوعيد بنفس الدرجة على الجهة الأخرى، ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾، وجزع محمد بن المنكدر عند موته، فقيل له، فقال: أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب، يعني: ما لم أكن أظنه، قلت: وهذه والله قاصمة الظهر، نسأل الله العفو والعافية، هذا كلام الزمخشري.
وآية ثالثة مثل سابقتها وهي قوله تعالى: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: ٦٢ - ٦٣]، فعبر في المسارعين إلى الإثم وأكل السحت بجملة: ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))، وعجائب القرآن لا تنتهي، وروعة القرآن الكريم ومعجزاته لا تنفد أبداً، ولو أن الواحد منا لم يعتن بكلام العلماء ويحاول أن يستخرج مثل هذه العجائب ربما صعب عليه جداً.
فقوله: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: ٦٢ - ٦٣]، النكتة أنه في الذنب الأول قال: ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))، وفي الثانية قال: ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)).
يقول الغماري أيضاً في خواطره: عبر في المسارعين إلى الإثم وأكل السحت بجملة: ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))، وعبر في التاركين للنهي عن المنكر؛ لأنهم العلماء والأحبار لما رأوا هؤلاء لم ينهوهم عن المنكر، فعبر عن التاركين نهيهم بجملة: ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)).
قال الزمخشري: كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير، يعني: الساكت عن النهي عن المنكر أشد وزراً من مرتكب المنكر، قال: لأن كل عامل لا يسمى صانعاً ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه، يعني: أن الشيء المتقن الذي يكون الإنسان قد تدرب فيه مدة كافية وتمكن منه، يقال فيه: إن فلاناً هذا عنده الصنعة الفلانية، فتجد عنده المهارة والتمكن وكثرة الممارسة.
يقول الزمخشري بعد ذلك: وكأن المعنى في ذلك أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة له بفعل غيره، يعني: عامل المعصية عنده شهوة في داخله هي التي تؤزه عليها أزاً، لكن الشخص المطالب بأن ينهاه ليس معه نفس هذه الشهوة؛ لأن شهوة غيره ليست في قلبه هو، فبالتالي يكون أقوى في النهي عن المنكر، فإذا فرط في الإنكار كان أشد حالاً من المواقع، ولعمري إن هذه الآية مما تهز المسامع وتنعي على العلماء توانيهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هي أشد آية في القرآن، يعني: آية الوعيد للذين يتركون النهي عن المنكر، ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٦٢]، هؤلاء العصاة، ﴿لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: ٦٢ - ٦٣]، وهذا دليل على أن الترك فعل؛ لأنه قال في الترك ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)) فعبر بالصنعة؛ لأن هؤلاء قد تمكنوا ورسخوا في هذا العمل.
وعن الضحاك قال: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، وتوضيح ذلك أنه لما ترك الإنكار على مرتكبي المناكير معبراً عنه بالصناعة كان هذا الذم أشد من سابقه؛ لأنه جعل ما ذموا به صناعة لهم وحرفة لازمة وهم فيها أمكن من أصحاب المناكير في أعمالهم، وهذا وجه الأشدية التي أشار إليها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: هي أشد آية في القرآن، والأخوفية التي ذكرها الضحاك في قوله: ما في القرآن آية أخوف عندي منها.
وفي سورة التوبة آية شديدة أيضاً وهي قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ [التوبة: ٢٤].
قال الحسن: أمره: عقوبة عاجلة أو آجلة.
وقال الزمخشري: وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها، كأنها تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه هل يجدُ عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا، ويتجرد منها لأجله، أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدري أي طرفيه أطول ويغويه الشيطان عن أقل حظ من حظوظ الدين فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره.
والبحث في أخوف آية بحث في آيات كثيرة جداً نرجو أن تأتي فرصة فيما بعد كي نفصله.


الصفحة التالية
Icon