تفسير قوله تعالى: (وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ٢٤ - ٢٥]، ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.
قوله: ((وَلَهُ الْجَوَارِ)) يعني: السفن، جمع جارية.
((الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ)) وقراءة أخرى: (المنشِآت) فإذا قلنا: المنشآت -بكسر الشين- فهي بمعنى: الظاهرات السير اللاتي تقبلن وتدبرن بشكل أفقي، وبفتحها المنشآت بمعنى المرفوعات القلاع التي تقبل بهن وتدبر.
فقوله: ((وَلَهُ الْجَوَارِ)) يعني: السفن الجارية.
وقد فسرت هنا بما كان في زمن المفسرين، فالذي كان يحرك السفينة فيما مضى الشراع فقط، فلذلك قال: (المنشَآت) بمعنى: القلاع اللاتي تقبل بهن وتدبر؛ لأن حركة السفينة تتم حسب حركة الرياح بالأشرعة المعروفة، لكن الآن نحن نرى سفائن منشآت فعلاً في البحار كالأعلام، يعني: كالجبال من ضخامتها.
وخبر السفينة التي تسمى (تيتانك) ليس ببعيد، والخبر معروف جداً فإن أصحابها كانوا قد طغوا وتجبروا وبغوا ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا﴾ [يونس: ٢٤]، وكان الاحتفال بتدشين بناء هذه السفينة فيه نوع من الاغترار الشديد جداً بمدى فخامتها، فأغرقها الله سبحانه وتعالى وأهلكها، وكان بعضهم قد صرح في حينها بأن هذه السفينة لا يمكن أن تغرق بأي حال من الأحوال لما فيها من الاستعدادات والاحتياطات وكذا وكذا.
فالشاهد أننا نرى هذه السفن -كنا على شاطئ البحر- في الأفق كأنها جبل جاثم فوق سطح الماء، ليست الأشرعة فقط كما كان عليه الحال فيما مضى، لكنه جسم السفينة نفسه كالجبل، وتعرفون اليوم حاملات الطائرات وبعض السفن التي تكون مدناً كاملة مقامة على ظهر البحر، فهذا كله من تسخير الله ومن نعم الله على العباد، ولكن أكثر الناس لا يشكرون؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ٢٤ - ٢٥].
والأعلام: جمع علم، والعلم هو: الجبل الطويل، ولما كانت السفن من أعظم الأسباب للمتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم مما فيه صلاح للناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع قال تعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، أي: بأي نعمه التي أنعم بها عليكم في هذه الجمادات، من خلق موادها والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإمضائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها غيره سبحانه وتعالى، فالسفينة وهي هذه الكتلة الهائلة على البحر، واستعمالها في نقل الأشياء الثقيلة وفي نقل المسافرين وفي الحروب ونحو ذلك كلّ ذلك لا شك في أنه من قدرة الله تبارك وتعالى؛ لأنه إذا قال قائل: العقل البشري هو الذي يبني هذه الأشياء، فإننا نقول: ومن أعطى الإنسان نعمة العقل؟ الله سبحانه وتعالى، ومن أراد أن يحس بقيمتها فليقارن بين الشخص العاقل وبين الشخص المجنون الذاهب عقله، وانظر إلى الفرق بينهما حتى تدرك ما قيمة العقل، أو بالأحرى قس الإنسان العاقل بالبهائم والحيوانات وقارن بينهما، فالله سبحانه وتعالى هو الذي وهب للإنسان نعمة العقل، وأمتن عليه به، فكل ما نجم عن نعمة العقل ما هو إلا من فيض نعمة الله سبحانه وتعالى على الإنسان بهذا العقل.