تفسير قوله تعالى: (كل من عليها فان فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قال الله تبارك وتعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ٢٦ - ٢٨].
قوله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾، كقوله أيضاً: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨]، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾ [الفرقان: ٥٨]، وقوله تبارك وتعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [الأنبياء: ٣٥]، والوجه صفة من صفات الله العلي التي وصف بها نفسه، فعلينا أن نصدق ربنا ونؤمن بما وصف به نفسه مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق.
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: ٢٦ - ٢٧] يعني: كل من على ظهر الأرض هالك، وهنا نلاحظ أنه لم يأت فيما مضى قريباً ذكر الأرض إلا في قوله تعالى: ﴿وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ﴾ [الرحمن: ١٠] فبسبب بعد العهد والسياق عن لفظة الأرض قال بعض المفسرين: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ هذا الضمير كناية عن غير المذكور وهو الأرض.
((فَانٍ)) أي: هالك.
((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)) أي: ذاته الكريمة.
((ذُو الْجَلالِ)) ذو العظمة والعلو والكبرياء.
((وَالإِكْرَامِ)) أي: التفضل التام، وهذه الآية كآية: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾.
وقال بعض المفسرين في قوله تبارك وتعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: ٢٧]، المعنى: أن الله تعالى مستحق أن يجلَّ ويكرم ولا يجحد ولا يكفر به.
وهناك احتمال آخر في التفسير: وهو أن يكون معنى: ((ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)): أنه يكرم أهل ولايته ويرفع درجاتهم.
وقد يحتمل احتمال ثالث وهو: أن يكون أحد الأمرين مضافاً إلى الله تعالى، والثاني: مضافاً إلى الخلق، بمعنى: أن أحد الأمرين في قوله ((ذو الجلال)) مضافاً إلى الله تعالى، يعني: أن الجلال صفة لله، واللفظ الآخر: وهو الإكرام يكون مضافاً إلى العبد، بمعنى: أن الفعل منه، كقوله تعالى: ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [المدثر: ٥٦] فتكون الآية على هذا الاحتمال الثالث مثل هذه الآية تماماً، فقوله: ((هو أهل التقوى)) مضافة إلى العبد، ((وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)) هو الله سبحانه وتعالى.
فإذاً: أحدهما راجع إلى العبد والآخر راجع إلى الله سبحانه وتعالى، فالجلال صفة الله، والإكرام فعله بعباده، وهو أنه يكرم عباده.
ولما كان فناء الخلق سبباً لبعثهم للنشأة الأخرى التي يظهر بها المحق من المبطل وينقلب الأول بالثواب ويبوء الآخر بالعقاب، فذلك من أعظم النعم التي يشمل فيها العدل الإلهي المكلفين، قال الله سبحانه وتعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، فإذا كانت الدنيا دار فناء، والعباد والصالحون إنما يعملون للإقامة في الآخرة والتمتع بجنات النعيم، فإن هذا الفناء لابد منه لكي يكون وسيلة إلى برزخ يمر به العبد إلى بعد ذلك، وهذه المرحلة الأخرى وهي يوم البعث والنشور الذي ينتهي به استقرار المؤمنين في الجنة والكافرين في النيران وفي العقاب والعذاب.
فلا شك أن هذا الإخلاء من هذه الزاوية نعمة من نعم الله على العباد، يتجلى فيها عدل الله سبحانه وتعالى ورحمته، فيقول: ولما كان فناء الخلق سبباً لبعثهم للنشأة الأخرى التي يظهر بها المحق من المبطل.
فإظهار أهل الحق لتمييز الحق من الضلال من نعم الله عز وجل.
ويقول: وينقلب الأول بالثواب ويبوء الآخر بالعقاب، فذلك من أعظم النعم التي يشمل فيها العدل الإلهي المكلفين، لذلك قال سبحانه وتعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).
وقد أشار الرازي إلى ما في قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ من الفوائد بقوله: فيه فوائد منها: الحث على العبادة، وترك الزمان اليسير إلى الطاعة.
أي: فيها حث على أن يجتهدوا في العبادة، وأن يستثمروا الزمان اليسير القليل في الطاعة.
ومنها: المنع من الوثوق بما يكون للمرء.
يعني: إياك أن تثق أو تتوكل على مال أو جاه أو منصب أو سلطان أو كذا أو كذا، وإنما تجعل ثقتك وتوكلك على الله سبحانه وتعالى وحده، لأن الكل يفنى ويهلك فلا يوثق به ولا يصلح أن تتوكل عليه، وإنما يصح التوكل على الباقي سبحانه وتعالى.
فلا يقول المرء إذا كان في نعمة: إنها لن تذهب، فيترك الرجوع إلى الله معتمداً على ماله وملكه، ولكن يقول: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾.
ومنها: الأمر بالصبر إن كان في ضر، فلا يكفر بالله معتمداً على أن الأمر ذاهب والضر زائل، وإذا أصابه بلاء أو ضرر يتذكر هذه الآية: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾، فلابد لهذا البلاء من نهاية، فيهون عليه البلاء ويسهل عليه الصبر، ويعصم نفسه من أن يقع في الكفر.
ومنها: ترك اتخاذ الغير معبوداً؛ لأن كل من عدا الله فان، ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨]، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: ٢٦ - ٢٧]، فالله سبحانه وتعالى الذي يبقى وجهه ذو الجلال والإكرام هو الأحق بأن يعبد ولا يشرك به شيء فانٍ.
ومنها: الزجر عن الاغترار بالقرب من الملوك وترك التقرب إلى الله تعالى، فإن أمرهم إلى الزوال قريب.
أي: أن الإنسان لا يغتر إذا كان مقرباً من ملك أو حاكم وأنه سيحميه ويرزقه ويعطيه ويفعل به كذا وكذا؛ لأنه لو تذكر قول الله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ لعلم أن هذا عما قريب سوف يزول، ومهما طال بهم الزمان فنهايتهم إلى التراب، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: ٢٦ - ٢٧].
ومنها: حسن التوحيد.
أن يحسن الإنسان توحيد الله تبارك وتعالى، وترك الشرك الظاهر والخفي جميعاً؛ لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد، وأي إله يعبد من دون الله فإنه فان بدلالة هذه الآية، فلا يصح الشرك الأكبر، وأيضاً لا يصح الشرك الأصغر الذي هو الرياء؛ لأن هؤلاء الذين ترائي من أجلهم إذا كانوا فانين فلماذا تبطل ثواب العبادة بأن تتزين لهم؟! فهؤلاء الناس لن يقدروا على ثوابك، وإنما الرياء يحبط عبادتك ويذهب جهدك سدى؛ فلذلك ينبغي للإنسان أن يكثر من تذكر هذه الآية الكريمة: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: ٢٦ - ٢٧].
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون وكذلك أهل السماوات إلا من شاء الله، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم، فإن الرب تعالى وتقدس لا يموت بل هو الحي الذي لا يموت أبداً.
قال قتادة: أنبأ بما خلق ثم أنبأ أن ذلك كله فان.
وفي الدعاء المأثور: (يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك).
فالإنسان يحرص على أن يتوكل على الله سبحانه وحده ويستعيذ بالله من أن يكله إلى غيره، ولا ينبغي للإنسان أن يتوكل على غير الله تبارك وتعالى.
وقال الشعبي: إذا قرأت: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ فلا تسكت حتى تقرأ: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾؛ لأن هذه الآيات متقابلة في المعنى، فيها نفي وفيها إثبات، ينبغي أن نصل بينهما في القراءة، فلا تقرأ: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ ثم تقف، بل الأدب والأكمل أن تتم المعنى؛ لأن المعنى يظهر بالصور المتضادة، فإذا كان كل من عليها فان فلابد أن تثبت قوله تعالى بعدها (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام).
وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨]، وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه ذو الجلال والإكرام، أي: هو أهل أن يجلَّ فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف، كقوله: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: ٢٨]، وكقوله إخباراً عن المتصدقين: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ [الإنسان: ٩].
قال ابن عباس: ((ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) أي: ذو العظمة والكبرياء.
ولما أخبر عن تساوي أهل الأرض كلهم في الفناء، وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل قال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))؛ لأن الموت والفناء هو وسيلة للانتقال إلى دار الجزاء ودار الرحمة والعدل.