تفسير قوله تعالى: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي)
قال تعالى: ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي))، فالرسل غالبون لكل من غالبهم، والغلبة نوعان: غلبة بالحجة والبيان وهي ثابتة لجميع الرسل، وغلبة بالسيف والسنان، وهي ثابتة لمن أمر بالقتال منهم دون من لم يؤمر بها.
وقد دلت هذه الآية الكريمة وأمثالها كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: ١٧١ - ١٧٣]، على أنه لم يقتل نبي في جهاد قط على الإطلاق؛ لأن المقتول ليس بغالب، فالقتل في جانب والغلبة في جانب آخر، بدليل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ﴾ [النساء: ٧٤]، هي واحدة من الاثنتين فقط: إما أن يقتل وإما أن يغلب، فدل على أن القتل غلبة.
وقال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ [غافر: ٥١]، وقد نفى الله عن الشخص المنصور أن يكون مغلوباً نفياً باتاً في قوله تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٦٠]، وبهذا تعلم أن الرسل الذين جاء في القرآن أنهم قتلوا كقوله تعالى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ [البقرة: ٨٧] وقوله تعالى: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: ١٨٣] لم يقتلوا في جهاد، وإنما قتلوا صبراً كما حصل لزكريا وغيره من الأنبياء الذين قتلتهم بنو إسرائيل.
وقد بين العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى هذا المعنى بصورة مفصلة في أثناء تفسير سورة آل عمران عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ [آل عمران: ١٤٦].
يقول: هذه الآية الكريمة على قراءة من قرأ (قُتل) للمفعول: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ))، لا تدل على أن النبي قد يقتل، لكن على قراءة أخرى يحتمل ذلك، فالآية: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ [آل عمران: ١٤٦].
فعلى قراءة من قرأ: (قتل معه) بالبناء للمفعول يحتمل أن نائب الفاعل يكون لفظة: (ربيون)، يعني: قتل ربيون معه، وعليه فليس في (قتل) ضمير أصلاً؛ لأن نائب الفاعل اسم ظاهر.
وهناك احتمال آخر: أن يكون نائب الفاعل ضميراً عائداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتل)، وفي هذه الحالة تعرب جملة: ((مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)) بأن (ربيون) مبتدأ مؤخر مرفوع بالواو، و (معه): شبه جملة في محل رفع خبر مقدم.
أما بالنسبة للفعل: (قتل)، فنائب الفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) يعود إلى النبي.
يقول: ويحتمل أن يكون نائب الفاعل ضميراً عائداً إلى النبي، وعليه فمعه خبر مقدم، و (ربيون): مبتدأ مؤخر سوغ الابتداء به اعتماده على الظرف قبله ووصله بما بعده، والجملة حالية والرابط الضمير، وسوغ إتيان الحال من النكرة التي هي نبي وصفه بالقتل ظلماً، وهذا هو أجود الأعاريب المذكورة في الآية على هذا القول.
يقول: وبهذين الاحتمالين في نائب الفاعل المذكور يظهر أن في الآية إجمالاً، والآيات القرآنية مبينة أن النبي المقاتل غير مغلوب بل هو غالب، كما صرح تعالى بذلك في قوله: ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي))، وقال قبل ذلك: ((أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ))، ثم قال: ((إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)).
وأغلب معاني الغلبة في القرآن: الغلبة بالسيف والسنان، كقوله تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنفال: ٦٥]، وقال تعالى بعدها: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ﴾ [الأنفال: ٦٦]، وقال تعالى: ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم: ١ - ٤]، وهذه الغلبة بالسيف والسنان في القتال، وقال تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٤٩] أي: بالسيف والسنان، وقال تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ﴾ [آل عمران: ١٢]، إلى غير ذلك من الآيات.
يقول: وبين تعالى: أن المقتول ليس بغالب بل هو قسم مقابل للغالب بقوله: ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ﴾ [النساء: ٧٤]، فاتضح من هذه الآيات أن القتل ليس واقعاً على النبي المقاتل؛ لأن الله كتب وقضى له في أجله أنه غالب، وصرح بأن المقتول غير غالب.
وقد حقق العلماء أن غلبة الأنبياء على قسمين: غلبة بالحجة والبيان، وهي ثابتة لجميعهم.
وغلبة بالسيف والسنان، وهي ثابتة لخصوص الذين أمروا منهم بالقتال في سبيل الله.
قال: وتصريحه تعالى بأنه كتب أن رسله غالبون شامل لغلبتهم لمن غالبهم بالسيف، كما بين أن ذلك معنى الغلبة في القرآن، وشامل أيضاً لغلبتهم بالحجة والبيان، فهو مبين أن نصر الرسل المذكور في قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ [غافر: ٥١] وقوله: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ﴾ [الصافات: ١٧١ - ١٧٢]، نصر غلبة بالسيف والسنان للذين أمروا منهم بالجهاد؛ لأن الغلبة التي بين أنه كتبها لهم أخص من مطلق النصر؛ لأنها نصر خاص، والغلبة لغة الثقل، والنصر لغة إعانة المظلوم، فيجب بيان هذا الأعم بذلك الأخص.
وبهذا تعلم أن ما قاله الإمام الكبير الحافظ ابن جرير رحمه الله تعالى ومن تبعه في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا﴾ [غافر: ٥١] إلى آخره، من أنه لا مانع من قتل الرسول المأمور بالجهاد، وأن نصرة المنصوص في الآية حينئذ يحمل على أحد أمرين: أحدهما: أن الله ينصره بعد الموت، بأن يسلط على من قتله من ينتقم منه، كما فعل بالذين قتلوا يحيى وزكريا وشعيبا من تسليط بختنصر عليهم ونحو ذلك.
إما أن يسلط الله على من قتل النبي في الجهاد بأن يقتل وينكل به انتقاماً.
الثاني: حمل الرسل في قوله تعالى: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا))، على خصوص نبينا صلى الله عليه وسلم.
لا يجوز حمل القرآن عليه لأمرين: أحدهما: أنه خروج بكتاب الله عن ظاهره المتبادر منه بغير دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع، والحكم بأن المقتول من المتقاتلين هو المنصور بعيد جداً غير معروف في لسان العرب، فحمل القرآن عليه بلا دليل غلط ظاهر، وكذلك حمل الرسل على نبينا وحده ﷺ بعيد جداً أيضا، والآيات الدالة على عموم الوعد بالنصر لجميع الرسل كثيرة لا نزاع فيها.
أيضاًً الله سبحانه وتعالى لم يقتصر في كتابه على مطلق النصر الذي هو في اللغة: إعانة المظلوم؛ لأن النصر كما قلنا في اللغة: هو إعانة المظلوم، أما الغلبة لغة فهي القهر.
فالله سبحانه وتعالى لم يقتصر على مطلق النصر الذي هو في اللغة: إعانة المظلوم بل صرح بأن ذلك النصر المذكور هو للرسل هو نصر غلبة وقهر، وليس النصر بمعنى إعانة المظلوم؛ لأن الله قال: ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي))، فلابد أن يحمل النصر على هذه الغلبة والقهر كما ذكرنا.
يقول: (وقد رأيت معنى الغلبة في القرآن، ومر عليك أن الله جعل المقتول قسماً مقابلاً للغالب في قوله: ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ﴾ [النساء: ٧٤]، وصرح تعالى: بأن ما وعد به رسله لا يمكن تبديله بقوله جل وعلا: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأنعام: ٣٤]، ((وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)) ومن كلمات الله الكونية القدرية: أن الرسول لا يمكن أن يقتل في الجهاد أبداً، ولا شك أن قوله تعالى: ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)) من كلماته التي صرح بأنها لا مبدل لها، وقد نفى الله جل وعلا عن المنصور أن يكون مغلوباً نفياً باتاً بقوله: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٦٠].
وذكر مقاتل: أن سبب نزول قوله تعالى: ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)): أن بعض الناس قال: أيظن محمداً وأصحابه أن يغلبوا الروم وفارس كما غلبوا العرب، زاعماً أن الروم وفارس لا يغلبهم النبي ﷺ لكثرتهم وقوتهم فأنزل الله الآية، وهو يدل على أن الغلبة المذكورة فيها غلبة بالسيف والسنان؛ لأن صورة السبب لا يمكن إخراجها).
وسبب النزول يكون دخولاً في حكم الآية قطعياً، ويدل له قوله قبله: ((أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ))، وقوله بعده: ((إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)).
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: (أضواء البيان) أننا نستشهد للبيان بالقراءة السبعية بقراءة شاذة فيشهد للبيان الذي بينا به أن نائب الفاعل: (ربي