تفسير قوله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله)
قال الله تعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: ٢٢] إلى آخره.
((مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، أي: شاقهما وخالف أمرهما، يعني: لا تجد قوماً جامعين بين الإيمان بالله واليوم الآخر وبين مودة أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والمراد بنفي الوجدان نفي الموادة على معنى أنه لا ينبغي أن يتحقق ذلك، وحقه أن يمتنع، ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته، والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراز من مخالطتهم ومعاشرتهم.
يعني: ((لا تجد قوماً)) أسلوب خبري؛ لأن (لا) هنا نافية وليست ناهية؛ لكنه ظاهره النفي ومراده النهي، كقوله: (لا ضرر ولا ضرار) وقوله: ﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: ١٩٧] فهذا خبر لكن المقصود به: (لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا) فالمقصود هنا: أن هذا من شدة تأكده ولزومه على المؤمنين، كأنه لا يمكن أن تجد مؤمناً يحب الله ورسوله يجمع بين الإيمان ومودة أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمراد بنفي الوجدان نفي المودة، يعني: لا توادوهم أبداً، على معنى أنه لا ينبغي أن يتحقق ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتوصية في التصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراز من مخالطتهم ومعاشرتهم.
وزاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله: ((وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ)) إلى آخره.
((وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ)) يعني: آباء الموادين، والضمير في (كانوا) لمن حادوا الله ورسوله، يعني: ولو كان هؤلاء الذين حادوا الله ورسوله آباءهم أو أبناءهم إلى آخره، ونلاحظ هنا جمعاً وإفراداً، الإفراد بقوله: (حاد الله) وفاعله ضمير تقديره هو، يعود إلى (من) فالإفراد بالنظر إلى اللفظ، ثم باعتبار المعنى فقال: ((وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ)) فلذلك يقول القاسمي رحمه الله تعالى: والجمع باعتبار معنى (من)، كما أن الإفراد فيما قبله باعتبار لفظها، فإن قضية الإيمان هجر المحادين.
((أُوْلَئِكَ)) إشارة إلى الذين لا يوادونهم ((كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ)) أي: أسسه فيها ((وأيدهم بروح منه))، أي: بنور وعلم ولطف حيت به قلوبهم في الدنيا، وأشار إلى مآلهم في الآخرة بقوله: ((وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))، أي: الناجحون الفائزون بسعادة الدارين.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وردت هذه الآية الكريمة بلفظ الخبر: ((لا تَجِدُ قَوْمًا)) والمراد بها الإنشاء، وهذا للنهي البليغ والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله، وإيراد الإنشاء بلفظ الخبر أقوى وأوكد من إيراده بلفظ الإنشاء كما هو معلوم بمحله.
ومعنى قوله: ((يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، أي: يحبون ويوالون أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وما جاء في هذه الآية من النهي والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله جاء موضحاً في آيات أخر، كقوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: ٤].
أكاد أجزم والله تعالى أعلم لو أن هؤلاء المؤمنين إبراهيم والذين معه عاشوا في عصرنا لقيل لهم: أنتم متطرفون وإرهابيون إلى آخر هذه القائمة من الشتائم المعروفة.
فحقيقة ما يحصل الآن هو غسيل مخ للمسلمين في ظل نظام العولمة، وهذا يهدم أصلاً أصيلاً من أصول الإيمان بعد التوحيد مباشرة، وهو حق من حقوق التوحيد، ألا وهو قضية الولاء والبراء؛ فالآن تجري عملية تغريب عن طريق بث هذه الأفكار المسمومة، وليس التغريب بمعنى التبعية للغرب كما هو شائع، لكن التغريب زيادة غربة الإسلام بين أهله، حتى أن الذي يقول هذا الكلام أصبح إنساناً شاذاً متطرفاً مهووساً مجنوناً يريد الفتنة، ويريد كذا وكذا.
فهذه زيادة غربة الإسلام بإشاعة المفاهيم المسمومة حتى تزداد غربة المفاهيم الصحيحة، ويصبح القائم بها هو الشاذ المتطرف الإرهابي.
ويقول تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩]، الآن نحل محلها الأخوة الإنسانية، وحقوق الإنسان، إلى آخر هذه المصطلحات.
ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة: ١٢٣]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ٧٣].
وقوله هنا في هذه الآية الكريمة: ((وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ)) زعم بعضهم أنها نزلت في أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قائلاً: إنه قتل أباه كافراً يوم بدر أو يوم أحد.
وقيل نزلت: في عبد الله بن عبد الله بن أبي وزعم من قال ذلك أن عبد الله استأذن النبي ﷺ في قتل أبيه عبد الله بن أبي فنهاه.
وقيل نزلت: في أبي بكر، وزعم من قال ذلك أن أباه أبا قحافه سب النبي ﷺ قبل إسلامه فضربه ابنه أبو بكر حتى سقط.
((أَوْ أَبْنَاءَهُمْ)) زعم بعضهم أنها نزلت في أبي بكر حين طلب مبارزة ابنه عبد الرحمن يوم بدر.
((أَوْ إِخْوَانَهُمْ)) زعم بعضهم أنها نزلت في مصعب بن عمير، قالوا: قتل أخاه عبيدة بن عمير؛ وقال بعضهم: مر بأخيه يوم بدر وقد كان يأسره رجل من المسلمين، فقال: شدد عليه الأسر، فإن أمه ملية وستفديه.
((أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)) قال بعضهم: نزلت في عبيدة بن الحارث بن المطلب وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم لما قتلوا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة في المبارزة يوم بدر وهم بنو عمهم؛ لأنهم أولاد ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف وعبد شمس أخو هاشم كما لا يخفى.
((أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ))، أي: ثبته في قلوبهم بتوفيقه.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تثبيت الإيمان في قلوبهم جاء موضحاً في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾ [الحجرات: ٧ - ٨].