تفسير قوله تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفرلنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان)
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: ١٠] يعني: بالذين جاءوا من بعدهم الذين هاجروا حين قوي الإسلام من بعد الذين هاجروا مخرجين من ديارهم، فالسابقون الذين مر ذكرهم في الفقراء المهاجرين هم الذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم على الصفة التي ذكرنا، وأما هؤلاء: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)) فيقال: إنهم الذين هاجروا بعدما قوي الإسلام من بعد الذين هاجروا مخرجين من ديارهم.
فالمراد مجيئهم إلى المدينة بعد مدة، والمجيء هنا حسي حقيقي.
وقيل: هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة؛ لأن هذه صريح في هذه الآية: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا)) إلى آخره، فهذه الآية تتناول كل مؤمن يأتي بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة.
إذاً فالمجيء هنا إما إلى الوجود أو إلى الإيمان، (والذين جاءوا من بعدهم) أي: الأجيال الأخرى التي توجد في الدنيا بعد ذلك، أو جاءوا إلى الإيمان، ونظير هذه الآية قول الله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [التوبة: ١٠٠].
وقال الشهاب: والمراد بدعاء اللاحق للسابق -وهم الخلف للسلف-: أنهم متبعون لهم، أو هو تعليم لهم بأن يدعو لمن قبلهم ويذكرونهم بالخير.
ثم بين تعالى حال من يجيء بعدهم بأنه يثني على من سبقه ويدعو له، ابتهاجاً بما أتوا، واغتباطاً بما عملوا؛ لأنهم بين مهاجر عن أهله وأمواله محبة في الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبين محب لمن هاجر مكرِم له بل مؤثر إياه، مما أسفر عن قوة الإيمان والإخلاص في تدعيم روابط الإخاء.
أي: أنك لا تدع للمهاجرين والأنصار إلا إذا كنت معجباً وراضياً ومقدراً لهم ما فعلوه، سواء كان المهاجرين أو الأنصار.
يقول: لأنهم بين مهاجر عن أهله وأمواله محبة في الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبين محب لمن هاجر مكرِم له بل مؤثر إياه، مما أسفر عن قوة الإيمان والإخلاص في تدعيم روابط الإخاء، فهذا هو الظاهر من لفظ الآية الكريمة وذوق سوقها، وأما فقراء الصنفين الآخرين فإنهم يستحقون من الفيء قياساً على الصنف الأول لاشتراكهم في الفقر، إلا أنه في عهد النبي ﷺ لم يشكُ أحد من الأنصار في تلك الواقعة فقراً إلا سهل بن حنيف سهلاً وأبا دجانة كما تقدم، فأعطاهما صلى الله عليه وسلم، وأما في غيرها من الوقائع التي كثرت فيها الغنائم فقد كان حظهم منها ما هو معروف ومبيّن في آيات أخر.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)) يعني: التابعين ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة.
قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجهد أن لا تخرج من هذه المنازل.
يعني: كن مهاجراً، فإن لم تستطع أن تكون مهاجراً الآن فافعل ما فعله المهاجرون، فإن لم تستطع فكن أنصارياً، فإن لم تستطع فكن محباً للمهاجرين والأنصار، ومستغفراً وداعياً لهم.
وقال بعضهم: كن شمساً، فإن لم تستطع فكن قمراً، فإن لم تستطع فكن كوكباً مضيئاً، فإن لم تستطع فكن كوكباً صغيراً، ومن جهة النور لا تنقطع، ومعنى هذا: كن مهاجرياً، فإن لم تستطع فكن أنصارياًً، فإن لم تستطع فاعمل بأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله.
وروى مصعب بن سعد قال: الناس على ثلاثة منازل، فمضت منزلتان وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت.
وعن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده علي بن الحسين رضي الله عنه أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما تقول في عثمان؟ فقال له: يا أخي! أنت من قوم قال الله فيهم: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾ [الحشر: ٨] إلى آخر الآية؟ قال: لا، قال: فوالله! فإن لم تكن من أهل هذه الآية فأنت من قوم قال الله فيهم: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ))؟ قال: لا، قال: فوالله! فإن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام وهي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: ١٠]، فمن وجد في قلبه غلاً وحقداً على أي أحد من الصحابة: مهاجرياً أو أنصارياً فليتهم إيمانه، فهذه علامة النفاق في قلبه؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة: ١٠٠] أي: أنه اشترط الإحسان فيمن يأتي بعدهم، أما هم فهم محسنون بطبيعة الحال؛ ولذلك لم يشترط فيهم الإحسان، وإنما يشترط الإحسان فيمن يأتي بعدهم.
وقد قيل: إن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم روى عن أبيه: أن نفراً من أهل العراق جاءوا إليه فسبوا أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، ثم عثمان رضي الله عنه فأكثروا، فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا: لا، قال: أفمن الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم؟ فقالوا: لا، فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين -أي: لستم من المهاجرين ولا الأنصار- وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: ١٠]، قوموا فعل الله بكم وفعل، أي: يدعو عليهم.
ففي هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ لأنه جعل لمن بعدهم حظاً من الفيء ما أقاموا على محبتهم، وموالاتهم، والاستغفار لهم، وأن من سبهم، أو سب واحداً منهم، أو اعتقد فيه شراً فلا حق له في الفيء، وروي ذلك عن مالك وغيره.
قال مالك رحمه الله تعالى: من كان يبغض أحداًَ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)).
يعني: أن الفيء يكون للمهاجرين المذكورين في قوله: (للفقراء)، أو الأنصار الذين تبوءا الدار والإيمان، أو لمن يأتي بعدهم بشرط أن يلتزم هذا الخلق: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا))، وهذا: من شدة الحب كما قلنا، وهذه الدعوة لا تنطلق من اللسان فقط، بل لابد أن يكون هناك إعجاب وغبطة بما فعله الصحابة فتدعو لهم، وهذا هو الذي تستطيع أن تفعله: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: ١٠].
كما قال الله سبحانه وتعالى أيضاً في آخر سورة الفتح: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: ٢٩] يعني: التواضع والمسكنة والخشوع، ((ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ)) أي: أنهم قوم رضي الله سبحانه وتعالى عنهم ومدحهم وأثنى عليهم قبل أن يخلقوا في التوراة، أي: أن التوراة فيها هذا النص: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ [الفتح: ٢٩]، ومن هنا ذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى إلى تكفير من في قلبه غيظ وغل وحقد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان في هذا نقاش واختلاف، لكن هذا ما استنبطه الإمام مالك من هذه الآية، فهذا يدل وجوب محبة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإذا وجب علينا محبتهم فإنه يجب علينا أن نبغض من أبغضهم.
والحديث في هذا الأمر ذو شجون، ولا نستطيع أن نفصل فيه الآن، ولكن هذه إشارة عابرة إلى حال رافضة إيران وغيرها من أعداء الله ورسوله ﷺ ودينه، وأغلب الناس إلى الآن رغم أن الرافضة قد فضحوا، وفُضحت مؤامراتهم وعداءهم لأهل السنة وأهل الحق، لكن مع ذلك هناك أناس ليسوا مستعدين أصلاً حتى الآن لسماع صوت الحقيقة، ويعبر موقفهم على الأقل عن الموقف القلبي عن الموالاة لهؤلاء الشيعة المجرمين الذين يعتقدون تحريف القرآن، والذين يكفرون الصحابة، فالصحابة عند هؤلاء كلهم مرتدون إلا عدد قليل قد يصل إلى خمسة من الصحابة، فهؤلاء هم الذين بقوا على الإسلام! ومن إجرامهم أيضاً اتهام أبي بكر وعمر بأنهم زنادقة ومنافقون وكفار إلى آخر هذا الكلام الفاحش، فمثل هؤلاء لا يمكن أبداً أن يجتمع في قلب أحد محبة الصحابة مع محبتهم، وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد قال في علامة الفرقة الناجية: (هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فهل يعقل أن تكون الفرقة الناجية ف