تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل)
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: ١٠]: أي: قال أهل النار: لو كنا نسمع أو نعقل عن الله حججه ما كنا في أصحاب السعير، فهم يسمعون، ولكن لا يسمعون ما ينفعهم في الآخرة، ويعقلون ولكن لا يعقلون ما ينفعهم في الآخرة؛ لأن الله تعالى قال: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٧]، وقال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ [الكهف: ٥٧].
قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [الإنسان: ٢] فهذه إثبات لحاستي السمع والبصر، فهو عنده الآلة لكن لم يستعملها فيما خلقت لأجله، فهذه من الآيات التي تثبت حاستي السمع والبصر، ((فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)) في حين يقول في آيات أخرى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٧١].
وقال أيضاً في آخر سورة الملك: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [الملك: ٢٣] هذا إثبات لوجود هذه الآلات، لكنهم سمعوا وعصوا، كما في قوله: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: ٩٣] وهذا وإن كان في بني إسرائيل، إلا أنه تعالى قال لهذه الأمة: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال: ٢١] هم يسمعون الحروف لكن دون أن يعقلوها، تماماً كما قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: ((كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ))، قوله: ((كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ)) أي: يرفع صوته.
قوله: ((بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً)) أي: يعني لا يسمع إلا أصوات، مثله مثل البقرة أو الجاموسة أو الحمار أو غيرها من الحيوانات التي لا تعقل، إذا وقفت أمام الحمار وقرأت عليه المعلقات السبع مثلاً هل سيفهمها؟ هو يسمع أم لا يسمع؟ هو يسمع، لكن لا يفهم؛ لأنه ليس عنده عقل.
والحمار يسمع الأصوات، ولذلك يسير ببعض الأصوات المعينة ليتجه إلى اليمين أو الشمال، أصوات معينة يصدرها له سائقه فيستجيب، لكن هو لا يفهم هذا الكلام، فكذلك الكفار، فهذا معنى قوله تعالى: (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً).
والله سبحانه وتعالى خاطب هذه الأمة قائلاً: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال: ٢١] قوله: (وهم لا يسمعون) أي: سماعاً ينفعهم، وإلا فقد قال تعالى عنهم: ﴿قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا﴾ [الأنفال: ٣١]، وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾ [فصلت: ٢٦]، وقد بين تعالى سبب عدم استفادتهم بما يسمعون في قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [الجاثية: ٧ - ٩]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا﴾ [لقمان: ٧]، فقول الكفار هنا: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: ١٠] يعني: لو كنا نسمع سماع تعقل وتفهم ما كنا في أصحاب السعير.


الصفحة التالية
Icon