تفسير قوله تعالى: (كلا إنه كان لآياتنا عنيداً ثم قتل كيف قدر)
قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ [المدثر: ١٦ - ٢٠].
((كَلَّا))، أي: لا يكون ما يؤمل ويرجو؛ لأن الجدير بالزيادة من نعيم الآخرة هم المتقون لا هو.
((إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا))، كيف أزيده وأضيف إلى نعيم الدنيا الذي أعطيته إياه نعيماً في الآخرة وهو كان معارضاً لآيات الله.
فشرعت الآيات في ذكر مفاسده التي تجعله غير جدير بأن ينعم في الجنة.
فقوله: ﴿عَنِيدًا﴾، أي: معانداً للحجج المنزلة والمرسلة.
﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾، أي: سأغشيه عقبة شاقة المصعد كالجبل المرتفع كلما ارتفع زاد اختناقاً وضاق نفسه، كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام: ١٢٥]، فهذا عذابه أن يصعد على جبل أو على عقبة مرتفعة شاقة في غاية العسر، وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق.
والمعنى: أسوق إليه من المصائب ما يشق عليه مشقة من يكلف صعود الجبال الشاهقة العالية الوعرة.
ثم علل إرهاقه بقوله: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ [المدثر: ١٨ - ٢٢]، فهذا كله تعليل لاستحقاقه أن يرهقه الله سبحانه وتعالى صعوداً.
وقوله: (إِنَّهُ فَكَّرَ) يعني: ماذا يقول في هذه الآيات الكريمات، وفي هذا الذكر الحكيم؟ ((وَقَدَّرَ)) أي: قدر في نفسه ما يقوله وهيأه.
﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾، يعني: لعن كيف قدر ذلك الافتراء الباطل، واختلق ما يكذبه وجدانه فيه، وهو يعلم في قرارة نفسه أن القرآن حق من عند الله! ﴿ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾، تكرير للمبالغة في التعجب منه، وقد اعتيد فيمن عجب غاية العجب أنه يكثر من التعجب ويكرره.
و (ثم) للدلالة على أن الثانية أبلغ في التعجب من الأولى؛ لأن العطف بـ ((ثُمَّ))، يدل على تفاوت الرتبة.
فقوله: ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾، يعني: فقتل بنوع ما من القتل، وهذه الجملة دعاء.
﴿ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾، يعني: كأنه قال بعدما قال قتل بنوع ما من القتل: لا، بل قتل بأشده، وقد أورد الزمخشري في هذه الجملة ثلاثة أوجه: أن تكون تعجيباً من تقديره وإصابته فيه المحز، ورميه الفرض الذي كانت تنتحيه قريش.
أو ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به.
أو هي حكاية لما كرروه من قولهم: (قتل كيف قدر) تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره واستعظامهم لقوله! ثم قال: ومعنى قول القائل: قتله الله ما أفزعه، وأخزاه الله ما أشعره، الإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك، أي أنه تفوق جداً في هذا المجال حتى إن الناظر إليه خليق أن يحسد على ذلك.


الصفحة التالية
Icon