تفسير قوله تعالى: (ثم نظر إلا سحر يؤثر)
قال تعالى: ﴿ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ [المدثر: ٢١ - ٢٤].
﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾، أي: في ذلك المقدر وتروى فيه.
قال الرازي: وهذه المرتبة الثالثة من أحوال قلبه، فالنظر الأول للاستخراج، واللاحق للتقدير، وهذا هو الاحتياط.
وقال غيره: ﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾، أي: في وجوه القوم.
﴿ثُمَّ عَبَسَ﴾، أي: قطب وجهه كبراً وتهيؤاً لقذف تلك الكبيرة.
﴿وَبَسَرَ﴾، أي: كلح وجهه شأن اللئيم في مراوغته ومقاتلته، والحسود في آثار حقده على صفحات وجهه.
((ثُمَّ أَدْبَرَ)): عن الحق.
((وَاسْتَكْبَرَ))، أي: عن الإيمان به.
﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾، أي: ما هذا القرآن إلا سحر يروى ويتعلم، أي: يأثره عن غيره، والمعنى أنه تعلمه من شخص آخر غيره.
﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾، أي: ليس بكلام الله كما يقوله.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: اتفق المفسرون على أن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي أحد رؤساء قريش لعنه الله، وكان من خبره ما رواه ابن إسحاق أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش! إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً.
قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقل به.
قال: بل أنتم تقولون أجمع.
قالوا: نقول: كاهن! قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.
قالوا: فنقول: مجنون! قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
قالوا: فنقول: شاعر! قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهجزه وقبيضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.
قالوا: فنقول: ساحر! قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم.
قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعبق، وإن فرعه لجنى، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: هو ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته! فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون مع الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا له أمره، فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة وفي ذلك قوله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [المدثر: ١١ - ٢٥].
وعن قتادة قال الوليد: لقد نظرت فيما قال هذا الرجل، فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى، وما أشك أنه سحر، فأنزل الله هذه الآيات.
وقد روي عن مجاهد أن الوليد كان بنوه عشرة.
وحكى الثعلبي عن مقاتل أنه أسلم منهم ثلاثة: خالد بن الوليد.
وعمارة.
وهشام.
قال ابن حجر في الإصابة: والصواب أنهم خالد، وهشام، والوليد، فأما عمارة فإنه مات كافراً؛ لأن قريشاً بعثوه للنجاشي فجرت له معه قصة فأصيب بعقله.
وقد ثبت أنه ممن دعا النبي ﷺ عليهم من قريش لما وضع عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهره وهو يصلي، فدعا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، فأصابته دعوة النبي عليه السلام وجن في الحبشة.


الصفحة التالية
Icon