وجه الجمع بين الأحاديث في أول ما نزل من القرآن
سنشرع بإذن الله تبارك وتعالى في تفسير السورة الرابعة والسبعين، وهي سورة المدثر، وهي سورة مكية، وعدد آياتها تسع وخمسون آية.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ثبت في صحيح البخاري عن جابر رضي الله تعالى عنه، أنه كان يقول: (أول شيء نزل من القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾) وخالفه الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولاً قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.
وروى البخاري عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾، قلت: يقولون: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾؟ فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثلما قلت لي، فقال جابر: (لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت الوادي فسمعت صوتاً فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا علي ماءً بارداً، قال: فدثروني وصبوا علي ماءً بارداً، فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ﴾ [المدثر: ١ - ٢]).
وروى الشيخان أيضاً عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت النبي ﷺ وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: (فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء الأرض، فجثثت منه رعباً، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: ١] إلى آخر الآيات).
فيفهم من هذا السياق أن هناك وحياً نزل قبل سورة المدثر، ففي هذه الرواية يقول جابر: (سمعت النبي ﷺ وهو يحدث عن فترة الوحي) أي أن الوحي أول ما نزل على النبي عليه الصلاة والسلام بسورة اقرأ، ثم انقطع فترة، وتوقف لمدة، ثم بعد ذلك عاد الوحي فكان أول ما نزل بعد فترة الوحي هو: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾، وهذا الحديث يوضح ذلك.
يقول جابر: سمعت النبي ﷺ وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: (فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه رعباً، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ﴾ [المدثر: ١ - ٢] إلى آخر الآيات).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا السياق هو المحتوم، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله: (فإذا الملك الذي جاءني بحراء)، وهو جبريل حين أتاه بقوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: ١]، ثم إنه حصل بعد هذا فترة، ثم نزل الملك بعد، هذا وجه الجمع.
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، (أن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاماً، فلما أكلوا منه قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: ليس بساحر.
وقال بعضهم: كاهن، وقال بعضهم: ليس بكاهن.
وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: ليس بشاعر.
وقال بعضهم: سحر يؤثر.
فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر، فبلغ ذلك النبي ﷺ فحزن وقنع رأسه وتدثر، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: ١] إلى آخر الآيات).


الصفحة التالية
Icon