تفسير قوله تعالى: (ونفس وما سواها وقد خاب من دساها)
قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: ٧ - ١٠] قوله: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ أي: خلقها فعدل خلقها ومزاجها، وأعدها لقبول الكمال، فالنفس مخلوقة.
قوله: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ قال القاسمي: أي: أفهمها إياهما، وأشعرها بهما بالإلقاء الملكي، والتمكين من معرفتهما، وحسن التقوى وقبح الفجور معلومان بالعقل الهيولاني.
وأصل كلمة (الهيولى) هي: مادة الشيء الذي يصنع منه، وهذا التعبير عند الفلاسفة، فمثلاً الهيولى بالنسبة للكرسي هو الخشب، والهيولى بالنسبة للمسمار هو الحديد، والهيولى بالنسبة للملابس القطنية هو القطن.
أما عند القدماء فالهيولى هو: مادة ليس لها شكل ولا صورة معينة، قابلة للتجديد والتطوير بشتى الطرق، والفلاسفة يقولون هي: المادة التي صنع الله منها أجزاء العالم المادية، والمراد بالعقل الهيولاني الذي ما زال في الحالة المبدئية، نقول: هذا رسم هيولاني، يعني رسم أولي لم يجاوز الخطوط الأساسية، ونحن نسميه رسم (كروكي)، فالرسم (الكروكي) هو الذي يُقال فيه: الرسم الهيولاني، بمعنى: ما زال في حالة مبدئية.
قول القاسمي: ((فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) أي: أفهمها إياهما، يعني: أنه بين للإنسان طريق الخير وطريق الشر، طريق الفجور وطريق التقوى.
قوله: وأشعرها بهما بالإلقاء الملكي، يعني: أن الملك يلقي في قلب الإنسان الخير كما هو معروف في الحديث الذي ضربه الرسول ﷺ للصراط، وقال فيه: (والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم) فهذا هو الإلقاء الملكي، فالملك يحدث الإنسان بأن هذا خير فافعله، وهذا شر فاجتنبه.
قوله: والتمكين في معرفتهما، يعني: أن الله آتى الإنسان قدرات وعقلاً حتى يستطيع أن يميز بين الخير والشر ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: ١٠].
قوله: وحسن التقوى وقبح الفجور معلومان بالعقل الهيولاني، يعني: بالعقل المبدئي أو المادة الخام للعقل إن جاز التعبير.
وفي صحيح مسلم أن من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها).
وجوز أن تكون (ما) مصدرية في كل هذه الآيات: يعني: والسماء وبناءها، والأرض وطحيها، ونفس وتسويتها، ونفس وإلهامها.
وأما تنكير (نفس) فللتكثير أو التعظيم، والإنسان طبعاً روح وبدن، ومعظم الناس إذا تفكر في خلق الله للإنسان فينظر فقط للبدن، أي للناحية العضوية أو الفسيولوجية لكن قلَّ من ينتبه ويفكر في النفس، فالإنسان مكّون من نفس كما أنه مكون من بدن، فهناك روح وهناك بدن.
قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ أي: زكى نفسه وطهرها من رجس النقائص والآثام، لأن التزكية تطلق على التطهير أو (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) يعني: نماها بالعلم والعمل والوصول إلى الكمال وبلوغ الفطرة الأولى.
قوله: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ قال ابن جرير: أي: أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله تعالى.
وقال غيره: أي: نقص تزكيتها وأخفى استعدادها وفطرتها التي خُلقت عليها.
فالإنسان أصلاً عنده استعداد للحق وللفضائل، لكنه يرسي هذه الفطرة السليمة ويخفيها ويدفنها عن طريق المعاصي والجهل والفسوق، وهو مأخوذ من دس الشيء في التراب، قال تعالى: ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾ [النحل: ٥٩]، فدس الشيء في التراب يعني: أدخله فيه وأخفاه، وأصل دس: دسسه.
وجملة (قَدْ أَفْلَحَ) جواب القسم، وحذفت اللام للطول.
وهنا نتأمل الأقسام المذكورة في هذه السورة: ١ - (وَالشَّمْسِ) ٢ - (وَضُحَاهَا) ٣ - وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ٤ - وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ٥ - وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ٦ - (وَالسَّمَاءِ) ٧ - (وَمَا بَنَاهَا) ٨ - (وَالأَرْضِ) ٩ - (وَمَا طَحَاهَا) ١٠ - (وَنَفْسٍ) ١١ - (مَا سَوَّاهَا) وجواب هذه كلها: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).
قال البيضاوي: وكأنه لما أراد به الحث على تكميل النفس والمبالغة فيه أقسم عليه بما يدلهم على العلم بوجود الصانع ووجوب ذاته وكمال صفاته، الذي هو أقصى درجات القوة النظرية، ويذكرهم عظائم آلائه ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه، الذي هو منتهى كمالات القوة العملية.
وذهب الزمخشري إلى أن هذه الجملة كلام تابع لقوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) على سبيل الاستطراد.
وجواب القسم محذوف تقديره: ليدمدمن الله على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله ﷺ كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحاً عليه السلام.