تفسير ابن جرير لهذه الآيات
وقد اعتمد ابن جرير في تخريج الآية ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن معنى الآية: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ [التين: ٥] أي: ثم رددناه إلى أرذل العمر، وأن من كان يعمل بطاعة الله في شبيبته كلها، ثم كبر حتى ذهب عقله، كُتب له مثل عمله الصالح الذي كان يعمله في شبيبته، ولم يؤاخذ بشيء مما عمل في كبره وذهاب عقله من أجل أنه مؤمن وكان يطيع الله في شبيبته.
انتهى كلامه.
وهذا غير صحيح؛ لأن الواقع يشهد بخلافه، فكم نرى من أناس صالحين أصابهم الخرف، مثل بعض علماء الحديث تجد أنه تغير في آخر عمره واختلط حفظه! وهذه سنة الله سبحانه وتعالى، فإن كل كمال يؤول وينتهي إلى النقصان، ومهما بلغ الإنسان فلابد أنه يرجع إلى الضعف، وتضمحل قواه، وهذا ليس بعيب، وإن كان يوجد فعلاً بركة في العمر وفي الصحة لكثير من الناس والعلماء الأفاضل ممن طعنوا في السن، ومع ذلك لم تذهب عنهم العافية، وهذا من بركة القرآن وبركة العلم والطاعة، لكن هل نقول: إن عدم وجودها نذير شؤم وبلاء على صاحبه وعلامة سوء خاتمة والعياذ بالله؟!
ﷺ لا؛ لأنه لا يُتصور أن الإنسان الذي اجتهد طول عمره في الطاعة والاستقامة ثم ابتلي بمرض من أمراض الشيخوخة المعروفة، مثل فقدان الذاكرة أو نحو ذلك أن نعامله كأنه إنسان مجنون.
فالله سبحانه وتعالى هنا كأنه يُطمئن من جرت عليه هذه السنّة حين طعن في السن ورد إلى أرذل العمر أنه ما دام مكلفاً فهو ينال ثواب عمله إذا ابتلي بأي مرض، وبعض الناس لو رأى أحداً ممن ابتلي بالسرطان أو غيره من الأمراض فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه أن هذه علامة سوء! نقول: لا، هذه سنن الله، وهي تمضي على كل خلق الله سبحانه وتعالى، وربما ترتفع بها درجات الإنسان إذا ابتلي بالبلاء الكبير.
وعلى هذا، فقوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [التين: ٦]، كأنها بشارة ومواساة وتعزية لمن يبتلى بمثل هذا، أنه إذا اختلّ عقله مثلاً بسبب كبر السن، فلا يؤاخذ على ما يصدر منه من أشياء غير حميدة، وفي هذه الحالة يبشره الله سبحانه وتعالى أنه ما دام حياً فإنه يجري عليه ثواب الأعمال الصالحة التي كان يعملها قبل أن يبتلى بهذا المرض؛ لأنه ظل مستقيماً إلى آخر إمكانياته.
ولذلك قال تعالى: ((فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)) يعني: غير منقطع عند تغير العقل بسبب كبر السن، وسيظل يجري عليه أجره تامّاً، كما جاء في الحديث: (إذا سافر العبد أو مرض كتب الله مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً).
ومثله من كان مواظباً على قيام الليل ثم فاته قيام بعض الليالي لمرض أو نحوه، فإنه يكتب أجره كاملاً كما كان يقوم الليل من قبل، ما دام أن الذي أقعده هو المرض.
فكذلك قوله: ((فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)) أي: أنه إذا دخل في هذا السن وأصابه المرض فلا ينقطع أجره، بل يجري عليه أجر ما كان يعمله في حال شبابه وقوته؛ لأنه ما حال بينه وبين الطاعة إلا عذر سماوي لا يد له فيه.
وفي آخر العمر يصيب الإنسان الضعف وذهاب العقل، يقول الشاعر: إن الثمانين وقد بُلَّغْتُهَا أحوجت سمعي إلى ترجمان فالحواس كلها تضعف، والآيات في هذا واضحة بأن معنى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) أي: الرد إلى أرذل العمر، يقول تعالى: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ﴾ [يس: ٦٨]، ولذلك قال الله تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾ أي: لأن الكبير يعود إلى حال الأطفال بالضبط، وكما كانت أمك وهي تنظفك من النجاسات والأقذار دون أن تتأفف أو تتضجر، فإذا احتاجت هي وأبوك لهذا في يوم من الأيام ﴿فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: ٢٣].
قال تعالى: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ [النحل: ٧٠]، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ [الروم: ٥٤] سبحانه وتعالى!!