تفسير قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله)
ولما ذكر تعالى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير قتل نفس ولا فساد أتبعه ببيان الفساد المبيح للقتل، فقال عز وجل: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المائدة: ٣٣]، فهنا الآية تشرح صورة من صور هذا الفساد في الأرض، وهو الحرابة أو قطع الطريق.
يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٣].
يقول السيوطي رحمه الله تعالى: نزلت في العرنيين لما قدموا المدينة وهم مرضى، فأذن لهم النبي ﷺ أن يخرجوا إلى الإبل، ويشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل، فبعث رسول الله ﷺ في آثارهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم فتركوا في الحرة حتى ماتوا على حالهم، وهذا رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وإنما فعل بهم ذلك لأنهم فعلوا بالرعاة من المسلمين نفس هذا الفعل.
قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) يعني: بمحاربة المسلمين (ويسعون في الأرض فساداً) يعني: بقطع الطريق (أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) أي: تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى.
(أو ينفوا من الأرض) يقول السيوطي هنا: لترتيب الأحوال، يعني: أن قوله تعالى: (أن يقتلوا) لمن قتل، وقوله: (أو يصلبوا) لمن قتل وأخذ المال، وقوله: (أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) القطع لمن أخذ المال ولم يقتل، وقوله تعالى: (أو لينفوا من الأرض) والنفي من الأرض لمن أخاف الناس وأرهبهم، قاله ابن عباس وعليه الشافعي، وأصح قوليه أن الصلب ثلاثاً يكون بعد القتل، أي: بعدما يقتلون يعلقون في مكان عال؛ ليراهم الناس لمدة ثلاث، وقيل قبله قليلاً، ويلحق بالنفي ما أشبهه في التنكيل من الحبس وغيره.
وقوله: (ذلك) أي: الجزاء المذكور (لهم خزي) أي: ذل (في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وهو عذاب النار.
وقوله تعالى: ((إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا)) يعني: من المحاربين والقطاع ((مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) غفور لهم ما أتوه (رحيم) أي: بهم، عبر بذلك دون (فلا تَحدُّوهم) ليفيد أنه لا يسقط عنه بتوبته إلا حدود الله دون حقوق الآدميين، كذا ظهر لي، ولم أر من تعرض له، والله تعالى أعلم.
فإذا قتل وأخذ المال يقتل ويقطع، والقطع أولاً ثم يكون بعده القتل، ولا يصلب، وهو أصح قولي الشافعي، ولكن المعتمد في مذهبه أنه يقتل ويصلب ثلاثة أيام من غير قطع، ولا تفيد توبته بعد القدرة عليه شيئاً، وهو أصح قوليه أيضاً.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (إنما جزاء) يعني: مكافأة (الذين يحاربون الله ورسوله) أي: يخالفونهما ويعصون أمرهما.
(ويسعون في الأرض فساداً) أي: يعملون في الأرض المعاصي، وهو القتل وأخذ المال ظلماً.
(أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) أي: أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى.
(أو ينفوا من الأرض) أي: يطردوا منها وينحوا عنها، وهو التغريب عن المدن، فلا يقرون فيها.
(ذلك) أي: الجزاء المذكور.
(لهم خزي) أي: ذل وفضيحة في الدنيا.
(ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وهو عذاب النار.
(إلا الذين تابوا) يعني: من المحاربين (من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) وفي هذه الآية مسائل، منها: ما رواه ابن جرير وأبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في المشركين.
وقد روى ابن جرير عن أبي أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وظاهرها أنها عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفة، أي إنسان -سواءً كان مشركاً أم كتابياً أم مسلماً- فعل ما ذكر في الآية فهو يستحق نفس هذا الحكم.
روى الشيخان وأهل السنن وابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها -أي: كأن جو المدينة ما ناسبهم في صحة أجسامهم- فبعثهم رسول الله ﷺ في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها، ففعلوا وصحوا، فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول الله ﷺ في آثارهم فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم وألقاهم في الحرة).
قال أنس: (فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا) ونزلت: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ﴾ [المائدة: ٣٣].
وعند البخاري قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
واحتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء، فذهبوا إلى أن المحاربة في الأمصار وفي السبلات على السواء، وذلك أن بعض العلماء يرى أنه لا يكون محارباً وقاطع طريق إلا في البراري أو الصحراء وغير ذلك؛ لأن هذا النوع من الغدر الذي يكون في موضع بحيث لا يصل فيه الغوث لمن يستغيث، أو النجدة لمن يستنجد، فلذلك عظمت عقوبتهم، بخلاف الإنسان إذا كان في المدينة، فإنه يستطيع أن يستغيث ويستنجد بغيره، لكن جمهور العلماء يخالف هذا، فيقولون: إن المحاربة -سواء أكانت في الصحراء- مثلاً أم في الطرق أم في داخل المدن- حكمها سواء، لا فرق بين المدن أو الحضر وبين السبل.
يقول القاسمي: احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن المحاربة في الأمصار وفي السبلات على السواء؛ لقوله: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا﴾ [المائدة: ٣٣].
أي أن السبل والطرق هي من الأرض، والمدن والأمصار هي من الأرض، فحيث سعى بالفساد فقد سعى به في الأرض، سواء في السبلات أو في الأمصار.
وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولو شهروا السلاح في البنيان لا في الصحراء لأخذ المال فقد قيل: إنهم ليسوا محاربين، بل هم بمنزلة المنتهب؛ لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس.
وقال الأكثرون: إن حكم من في البنيان والصحراء واحد، بل هم في البنيان أولى أحق بالعقوبة منهم في الصحراء؛ لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم.
يعني أن كون الإنسان يقدم على قطع الطريق أو على الإفساد في الأرض بهذه الصورة في داخل المدن يدل على شدة التبجح والجرأة ومن ثم فهم يحتاجون إلى عقوبة غليظة؛ لأنهم في داخل المدن ومع ذلك يجاهرون بمثل هذا الفعل.
يقول: بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء؛ لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله.
يعني: هؤلاء إذا دخلوا على رجل في بيته واستولوا على المال هل يتركون شيئاً؟ يأخذون كل ما في البيت من الأشياء الثمينة من ذهب وأموال وغير ذلك مما هو معروف عن حالة قطاع الطرق أو اللصوص.
وأما المسافر فإنه يكون معه قليل من ماله، فهذه أحد وجوه الأولية بالنسبة لهذا الحكم في المدن عنها في الصحراء.
قال شيخ الإسلام: ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه غالباً إلا بعض ماله، وهذا هو الصواب.
فـ شيخ الإسلام يصوب المذهب القائل بتعميم حكم الحرابة في الصحراء وفي البنيان، حتى قال مالك في الذي يخدع الرجل حتى يدخل بيتاً فيقتله ويأخذ ما معه قال: هذه محاربة، ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول، بمعنى أنه مادام رفع إلى السلطان فلا رجوع في إقامة حد الحرابة عليه.
أما إذا كان دمه إلى ولي المقتول فهو يملك العفو عنه، لكن هذا الذي يفعل هذا الفعل محارب ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل، وإنما كان ذلك محاربة لأن القتل بالحيلة كالقتل مباشرة، فكلاهما لا يمكن الاحتراز منه، بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنه لا يدرى به.
وقيل: إن المحارب هو المجاهر بالقتال، وهذا المقتول يكون أمره إلى ولي أمر الدم.
والأول أشبه بأصول الشريعة.
وظاهر الآية أن عقوبة المحاربين المفسدين أحد هذه الأنواع، فيفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحاً.
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: (من شهر السلاح في رقعة الإسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به فقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله) وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك، كما رواه ابن جرير، وحكي مثله عن أنس.
قال ابن كثير: ومستند هذا القول ظاهر، وللتخيير نظائر من القرآن.
يعني أن الإمام بالخيار، وليس له أن يجمع كل هذه العقوبات، ونظيره قوله تعالى في جزاء الصيد: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَ


الصفحة التالية
Icon