تفسير قوله تعالى: (قل إني على بينة من ربي وكذبتم به وهو خير الفاصلين)
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام: ٥٧].
قوله تعالى: (قل إني على بينة من ربي) يعني: على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إليَّ، لا يمكن التشكيك فيها، وهذه هي الثقة بالمنهج، والثقة بالله سبحانه وتعالى.
والثقة بالمنهج الذي أنت عليه معناه أن تكون على بصيرة، بحيث لا تنقاد، لا كما يحاولون أن يصوروا في التمثيليات والإعلام والكاريكاتير بأن يأتوا بشخص ملتحٍ عيناه مغمضتان وآخر يجره من رقبته! فلسنا نحن الذي نفعل ذلك، فالذين يسيرون بهذه الطريقة ويقادون من أعناقهم كالأنعام يعرفون أنفسهم جيداً، أما نحن المسلمين المعتزين بهدي نبينا فنحن كما علمنا الله تعالى هنا (قل إني على بينة من ربي)، فأنا أعرف أن اللحية مثلاً أمر الله، وأن الصلاة ركن أساسي من الإسلام، وأن تعظيم القرآن وتحسينه قضية لا ريب فيها، فتعرف ملامح منهجك وأدلته، كما قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: ١٠٨] يعني: على بصيرة أيضاً ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: ١٠٨].
يقول بعض السلف: (لو شك الخلق كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي) فإذاً العبرة أن تكون على بينة؛ ولذلك لا مرحباً بمن ينتمي إلى الدعوة مقلداً لمجرد اتباع من يحبه أو من يعجب به، أو ينقاد كما تنقاد العجماوات من رقابها، لا مرحباً به في صفوف الدعوة الإسلامية، لكن الذي ينتمي للدعوة لا بد من أن يكون على بصيرة، فيعرف هدفه ويعرف ملامح هذا الطريق، وما الثمن الذي لا بد من أن يدفعه إذا سلكه، وغير ذلك مما يعكس أنه بالفعل يردد هذه الآية عن بصيرة: (قل إني على بينة من ربي) ليس على بينة من أحد آخر، إنما البينة من الله سبحانه وتعالى، فيعرف الآية، ويعرف الحديث، ويعرف الدليل فيما يذهب إليه من الحق، وطول المعايشة مع القرآن الكريم وتدبر القرآن الكريم يعطي الإنسان مدداً، فإن القلب العضلي كما يتغذى بالأوعية الدموية، فإن خيوط النور التي تنبعث من هذا الكتاب الكريم هي أيضاً غذاء للقلب، وبدونه لا يحيا، وبدونه يضعف الإنسان، وهذا سر الضعف الذي ينتاب كثيراً من الناس حتى يجعلهم ينتكسون عن طريق الحق، وذلك لأنهم مقطوعو الاتصال بالقرآن، ولو أنهم عرفوا مثل هذه الآية: (قل إني على بينة من ربي) لعلموا أن المراد: أنا واثق بمنهجي، وأعرف أين مبتدأه، وأين خبره، وأين مصيري إذا أنا سلكت هذا المنهج، وماذا يكون مصيري إذا حدت عنه، أعرف دليل ما أفعله، وأتبصر بديني، ولا أنقاد لأحد انقياد الأعمى أو المقلد، وإنما أعرف كل شيء ببينة وبصيرة.
فقوله: (قل إني على بينة من ربي) أي: على بصيرة من شريعته التي أوحاها إليك، لا يمكن التشكيك فيها.
وقوله: (وكذبتم به) هذه الجملة إما أنها استئناف أو حال، وقوله: (به) الضمير هنا عائد على البينة، والتذكير باعتبار المعنى المراد.
فالضمير في الآية يعود على البينة، والبينة مؤنث، فإذاً الضمير هنا يعود على معنى البينة وليس على لفظها، والبينة هي الوحي أو القرآن أو نحوهما.
وقوله تعالى: (ما عندي ما تستعجلون به) يعني: من العذاب، فأنتم تستعجلون نزول العذاب وأنا لا أملك ذلك، وكما أني ((لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ)) فكذلك ليس عندي العذاب الذي تتعجلونه.
فهذا استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأً لتكذيبهم بالبينة، حيث اعتبروا أن السبب أو المسول لأن يكذبوا بهذه البينة هو أنهم حينما استعجلوه بالعذاب لم يأتهم بالعذاب، فيعدون ذلك دليلاً على عدم صدقه! فكذبوا بهذا القرآن حين قالوا له: لو كنت رسولاً حقاً فأنزل علينا العذاب.
وكذلك قالوا: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢].
فليس لهذا الأمر تفسير في نظرهم القاصر إلا أنه ليس برسول! ولم يرد على أذهانهم أن هذا لعله رحمة من الله سبحانه وتعالى بهم أنه يمهلهم ويستعتبهم، كما قال تعالى في سورة الأنفال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: ٣٣] يعني: إكراماً لك ما دمت فيهم لا ينزل عليهم العذاب.
فهو إكرام للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: ٣٣]، يعني: وفيهم مؤمنون يستخفون بإيمانهم يستغفرون الله تبارك وتعالى.
فهم دائماً كانوا يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس: ٤٨] أي: متى هذا العذاب الذي تتوعدنا به إن كنت من الصادقين؟! بطريق الاستهزاء أو بطريق الإلزام على زعمهم، فالله تعالى سبحانه وتعالى يقول له هنا: ((قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ))، أي: إن ما تستعجلونه من العذاب الموعود في القرآن وتجعلون تأخره ذريعةً إلى تكذيبه ليس في حكمي وليس في قدرتي، فليس في قدرتي أن أجيء به وأظهر لكم صدقه، أو ليس أمره بمفوض إليَّ.
((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)) قوله: (إن الحكم إلا لله) أي: لو كان عندي ذلك لكنت أنا الحاكم، لكن إنما الحكم في ذلك تعجيلاً وتأخيراً لله وحده، وقد حكم بتأخيره لما له من الحكمة العظيمة، لكنه قطعاً محقق الوقوع، فما دام الله سبحانه وتعالى أوعدكم فوعيده محقق الوقوع؛ لأنه لا يخلف الميعاد، فتربصوا إنا معكم متربصون، فالمسألة هي مسألة وقت، فقد يشاء الله تعجيل العذاب، وقد يشاء تأخيره لحكمة لا يعلمها إلا هو، فهذا حكم يستأثر به الله سبحانه وتعالى، وهو واقع قطعاً حتى وإن تأخر؛ لأنه (يقص الحق وهو خير الفاصلين) وقوله: (يقص الحق) أي: يبينه بياناً كافياً (وهو خير الفاصلين) أي: القاضين بين عباده تبارك وتعالى.