تفسير قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب)
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ٥٠].
قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله) أي: قل يا محمد -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء المشركين المقترحين عليك تارة تنزيل الآيات، وأخرى غير ذلك، قل لهم: لا أدعي أن خزائن رزق الله مفوضة إلي، فأعطيكم منها ما تريدون من تصيير الجبال ذهباً، وغير ذلك مما يقترحون.
والخزائن: جمع خزانة، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء، وخزن الشيء: إحرازه، بأن يوضع في مكان موثوق بحيث لا تصل إليه الأيدي.
قوله: (ولا أعلم الغيب) أي: لا أعلم الغيب من أفعال الله عز وجل حتى تسألوني عن وقت الساعة، أو عن وقت نزول العذاب أو نحوهما؛ لأن ذلك موكول علمه إلى الله سبحانه وتعالى.
قوله: (ولا أقول لكم إني ملك) أي: لا أدعي أني ملك حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيقه البشر من الرقي في السماء ونحوه، أو تعدوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحاً في أمري، فأنا لم أدع أنني ملك حتى تعدوا عدم اتصافي بصفات الملائكة قادحاً في أمري وفي بعثتي وفي رسالتي؛ لأن هذا الزعم أو هذا القول منهم ينبئ عنه قولهم: ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: ٧] أي: كيف يكون رسولاً من البشر يأكل الطعام مثلنا ويمشي في الأسواق؟! ولذا قالوا: ﴿لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً﴾ [الفرقان: ٧].
فالمعنى: إني لا أدعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثة، حتى تقترحوا عليَّ ما هو من آثارها وأحكامها، فكل ما تقترحون عليَّ إنما هو آثار هذه الأشياء الثلاثة، وأنا لم أدع اختصاصي أو اتصافي بهذه الأشياء الثلاثة، فليس عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم: إني ملك.
والمقصود أنه يقول: إني لا أدعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثة حتى تقترحوا عليَّ ما هو من آثارها وأحكامها، وحتى تجعلوا عدم إجابتي لذلك دليلاً على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة التي لا تعلق لها بشيءٍ مما ذكر قطعاً؛ فإن الرسالة من الله سبحانه وتعالى إلى عبد من عباده أو إلى رسول من رسله إنما هي عبارة عن تلقي الوحي من جهة الله عز وجل، والعمل بمقتضى هذا الوحي فقط، ولا تتعدى ذلك، ولا ترتبط على الإطلاق بأن يكون هذا الرسول مالكاً لخزائن الله، أو عالماً للغيب، أو يدعي أنه ملك، فعدم وجود هذه الصفات الثلاث في مقدوره لا يقدح في رسالته؛ إذ لا تعلق له على الإطلاق بصفة الرسالة؛ لأن الرسالة عبارة عن استقبال الوحي من الله سبحانه وتعالى والعمل بمقتضى هذا الوحي، ولا تقتضي الرسالة أن يجيبكم رسول إلى ما تقترحونه من آيات؛ لأن خزائن الله ليست بيده، إن هو إلا عبد وبشر ورسول من الله سبحانه وتعالى، ولذلك لا يعلم الغيب حتى تكلفوه أن يخبركم متى الساعة أو متى ينزل العذاب، وليس هو ملكاً حتى تكلفوه بأن يرقى في السماء، أو تطلبوا منه من الأفعال ما لا يقوى عليه إلا الملائكة.
وقوله: (إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ) هذا هو مقتضى الرسالة، فمقتضاها تلقي الوحي واتباع هذا الوحي الذي يوحى من جهة الله تبارك وتعالى، والذي شرفني بذلك وأنعم به عليَّ.
فيتصل به الوحي أو روح القدس جبريل عليه السلام، فيخبره بوحي الله تبارك وتعالى.
ثم كرر الأمر تثنية للتبكيت بقوله تبارك وتعالى: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ))، ففي صدر الآية قال: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)).
ثم قال عز وجل ثانية: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ)) فالأعمى والبصير مثل للضال والمهتدي، كما قال تعالى: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [هود: ٢٤]، فالأعمى والبصير كلاهما مثل للضال وللمهتدي على الإطلاق، والاستفهام إنكاري، والمراد إنكار استواء من لا يعلم ما ذُكر من الحقائق مع من يعلمها.
وفيه إشعار بأن الذي لا يرى كل هذه الحقائق التي مضت فإنه ضال؛ لأنها في غاية الكمال وفي غاية الوضوح والظهور والبيان، بحيث لا يضل عنها ولا ينكرها إلا من كان أعمى لا يراها مع وضوحها.
وفي وصف الضال بالأعمى من التنفير عن الضلال والترغيب في الاهتداء ما لا يخفى؛ لأن وصف الضلال بالعمى ووصف الهدى بالبصر لا شك أن فيه تنفيراً من الضلال، وفيه ترغيباً عظيماً في الاهتداء.
وقوله: (أفلا تتفكرون) هذا تقرير وتوبيخ داخل تحت الأمر، أي: أفلا تتفكرون فتهتدوا حتى لا تكونوا ضالين أشباه العميان؟! وبعض المفسرين في قوله تبارك وتعالى: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) قالوا: إن هاتين الصفتين عبارة عن تبرؤ من دعوى الإلهية.
فكأن كلمة (لا أقول عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) تساوي (لست إلهاً)، أو: (لا أقول لكم: إني إله).
قالوا: لأن قسمة الأرزاق بين العباد ومعرفة الغيب مخصوصان به تعالى، ولذا كرر في الملكية لفظ: (ولا أقول) يعني: لست أدعي الإلهية، ولست أدعي الملكية، لا أقول: إني إله، ولا أقول: إني ملك.
فهذا الفريق من المفسرين الذي ذهب إلى هذا استند إلى أن الصفتين الأوليين عطفتا، ولم يصدر الأمر بـ (قل لا أقول) في كلا الجملتين؛ لأنهما عبارة عن أثرين من آثار الإلهية.
أي: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) اللذان هما من شأن الإله، ولذا قال: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الأرض ولا أعلم الغيب) يعني: لا أقول لكم: إني إله، ثم قال: (ولا أقول لكم إني ملك) فكرر كلمة (ولا أقول لكم إني ملك)؛ لحصول المغايرة بين الملكية وبين الإلهية، فكلاهما يتبرأ منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية الكريمة.
وهذا لم يسلم في الحقيقة، بل قال بعض المفسرين: هذا الزعم مما لا وجه له قطعاً.


الصفحة التالية
Icon