تفسير قوله تعالى: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم)
ثم لما أخبر تعالى أن أولئك المشركين كالصم البكم العمي، بل كالموتى؛ إذ لم يتعظوا بتصريف الآيات الباهرة، أمر بتوجيه الإنذار إلى من يتأثر بما يوحى إليه، فقال: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) يعني: إذا كان هؤلاء المشركين مع نذارتك، ومع بلاغك المبين، ومع اجتهادك في توضيح الحق لهم ودعوتهم إلى الهدى، يأبون إلا أن يبقوا كالصم البكم العمي، بل كالموتى؛ لأنهم لم يتعظوا بتصريف الآيات الباهرة، فأنذر الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم.
فعند ذلك أمر تبارك وتعالى بتوجيه الإنذار إلى من ينتفعون بهذا الإنذار، وأن يطرح عن نفسه هؤلاء الفجار الذين أعرضوا عن آيات الله تبارك وتعالى، فقال عز وجل: ﴿وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ٥١].
قوله: (وأنذر به) يعني: أنذر بهذا الوحي، أو بهذا القرآن، أو بالوحي المتقدم ذكره.
وقوله: (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ) أي: من دون الله تعالى (ولي) أي: ناصر ينصرهم (ولا شفيع) أي: يشفع لهم وينجيهم من العذاب، فليس لهم غير الله ولي ولا شفيع.
ومن المعروف والمشهور في آيات القرآن الكريم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نذير للعالمين، فهو نذير وبشير، فالنذارة لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، فما هي الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى خص الأمر بالنذارة هنا لهؤلاء الذين يخافون الله سبحانه وتعالى ويخافون يوم الحشر؟
ﷺ خصهم بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بالإنذار، وهم الذين يقودهم الإنذار إلى التقوى، وليس المراد الحصر حتى يرد أن إنذاره لغيرهم لازم أيضاً.
فقد يعترض بعض الناس على ظاهر هذا التفسير فيقول: كيف يكون الإنذار هنا لهؤلاء المتقين الصالحين والنبي ﷺ واجب عليه أن ينذر الصالحين وينذر الفاسقين؟ فنقول: إن هذا الإيراد غير لازم، ولا يلزمنا؛ لأن الآية لا يُعنى بها الحصر، ولا يقصد من الآية أنه ما عليك إلا أن تنذر المؤمنين أو المتقين أو الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم.
لكن الذي يفهم من الآية الكريمة أن الإنذار عام، لكن خص بالذكر هنا هؤلاء لأنهم هم الذين ينتفعون بالإنذار ويتعظون به.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ٥١] جملة (ليس لهم) حال من الفعل (يحشروا) والإعراب هنا مهم؛ لأننا نستطيع أن نفسر الآية تفسيراً صحيحاً بالإعراب، يعني: هم يخافون أن يحشروا وليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، فهذه حالهم إذا حشروا.
فجملة (ليس لهم) في موضع نصب على الحال من (يحشروا)، فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة، يعني: هم يخافون أن يحشروا على حالة يكونون ليس لهم فيها ولي.
ولا يخافون هذه الحالة، وإنما يرجون أن يحشروا ولهم ولي وناصر وهو الله سبحانه وتعالى، وشفيع بإذن الله تبارك وتعالى.
والمراد بالولي وبالشفيع في هذه الآية الآلهة التي كان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم، وحينئذ فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة للمسلمين، فلا يصح لأحد من الخوارج أو غيرهم أن يستدل بالآية الكريم على نفي حصول الشفاعة في الآخرة، سواء أكانت الشفاعة الخاصة بالأنبياء -خاصة خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم- أم بالمؤمنين والصالحين، أم بالملائكة، فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة للمسلمين؛ لأن شفاعة الرسل لا تتعارض مع أن يكون الله سبحانه وتعالى هو المصدر لهذا الخير؛ لأنه لا شفيع عنده إلا بإذنه، كما قال سبحانه: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥] فالشفاعة هنا ليست مغايرة أو خارجة عن إرادة الله، وليست صادرة عن غير الله، وإنما هي بإذن الله، فلا تدخل شفاعة الأنبياء وشفاعة المرسلين وشفاعة الصالحين في هذه الشفاعة المنفية في قوله تعالى: (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لهم يتقون).


الصفحة التالية
Icon