تفسير قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)
ثم قال تعالى: ﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٢].
روى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله ﷺ ستة نفر، فقال له المشركون: اطرد هؤلاء؛ لا يجترئون علينا)، أي: كيف تجلس في مجالسنا ومعك هؤلاء الضعفاء وهؤلاء الفقراء وهؤلاء المساكين؟ اطردهم حتى لا يجترئ هؤلاء الناس الفقراء والمساكين على مقاماتنا الشريفة والعالية.
فقال له المشركون: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا.
قال: (وكنت أنا - أي: سعد بن أبي وقاص - وابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ورجل من هذيل، وبلال ورجلان لست أسميهما -رضي الله تعالى عنهم أجمعين-، فوقع في نفس رسول الله ﷺ ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه؛ إذ كان يطمع في إيمان القوم، فأنزل الله تعالى: ((وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ))) وهذا رواه مسلم كما ذكرنا، وأخرج نحوه الحاكم وابن حبان في صحيحيهما.
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (مر الملأ من قريش على رسول الله ﷺ وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار، فقالوا: يا محمد! أرضيت بهؤلاء؟! فنزل عليه القرآن: ((وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) [الأنعام: ٥١])، أي: أن هؤلاء الضعفاء من المؤمنين هم الذين ينتفعون بإنذارك، فالزمهم ولا تطردهم عن مجلسك، فهذا وجه اتصال هذه الآية بالآية السابقة.
وروى ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله عنه -أيضاً- قال: (مر الملأ من قريش برسول الله ﷺ وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب، وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد! أرضيت بهؤلاء عن قومك؟! أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا، ونحن نصير تبعاً لهؤلاء؟) أي: أهؤلاء الفقراء الضعفاء المساكين يمن الله عليهم بالهداية دوننا ويكونون خيراً منا؟! فاستكبروا واستنكفوا، وقالوا: (ونحن نصير تبعاً لهؤلاء؟! اطردهم؛ فلعلك إن طردتهم نتبعك، فنزلت هذه الآية: ((وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)) إلى آخر الآية).
إذا علمت ذلك تبين أنه ﷺ لم يطردهم بالفعل، وإنما همَّ بإبعادهم من مجلسه آناء قدوم أولئك ليتألفهم، فيقودهم ذلك إلى الإيمان، فنهاه الله عن إمضاء ذلك الهم، أي: كان مجرد هم هم به النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يطردهم بالفعل.
وهنا قال الرازي كلاماً زعم فيه أن النبي ﷺ قد طردهم بالفعل، ثم أخذ يتكلف في الجواب عن هذا الزعم لمنافاته العصمة على زعمه، فهو بنى هذا الزعم على غير أساس، ثم تكلف بعد ذلك في الرد، ومعلوم أن القاعدة أنه لا يتكلف الجواب عن حديث حتى يصح، فالضعيف يكفي في رده كونه ضعيفاً، والباطل يكفي في رده كونه باطلاً، فلا يحتاج إلى أن تسود الصحائف في رده وإبطاله، وهذا هو شأن الرازي في كثير من المواضع، فالقاعدة المقررة أن البحث في الأثر فرع عن ثبوته، أي: أن الأصل هو أن تثبت صحته أولاً، كما يقال: ثبت العرش ثم انقشه.
والتفسير فرع التصحيح، فالبحث في الأثر فرع ثبوته، فإذا لم يثبت فلا داعي لمناقشة ما فيه، والباطل يكفي في رده كونه باطلاً.
والمعنى: لا تُبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: ٢٨].
ولا شك أن في هذه الآية مدحاً عظيماً لهؤلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين؛ لأن في هذه الآية -كما في نظائرها من الآيات الكريمات- مدحاً لباطنهم ومدحاً لظاهرهم، فقوله عز وجل: ﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الكهف: ٢٨] أي أن الظاهر أنك تراهم دائماً يدعون الله سبحانه وتعالى، وقوله: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: ٢٨] مدح لهم بالإخلاص وعدم الرياء، ولذلك نظائر في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً﴾ [الفتح: ٢٩] ففي هذا مدح لظاهرهم، ثم مدح باطنهم فقال: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً﴾ [الفتح: ٢٩].
وكذلك -أيضاً- في سورة الحشر قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: ٨].
وقوله تعالى: (يدعون ربهم) أي: يعبدونه ويسألونه.
وقوله: (بالغداة والعشي) قال سعيد بن المسيب وغيره: المراد به الصلاة المكتوبة.
قوله: (يريدون وجهه) المراد بالوجه هنا ذات الله عز وجل، كما في قوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] يعني: إلا الله سبحانه وتعالى.
والمراد بإرادة ذات الله هو الإخلاص لله عز وجل، فهذا معنى إرادة وجه الله، أو إرادة الله، أي: الإخلاص لله وحده.
وجملة (يريدون وجهه) حال من (يدعون)، يعني أنهم يدعون ربهم مخلصين له في هذا الدعاء، وتقييده به لتأكيد عليته للنهي، فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام المضاد للطرد، فإذا كان هؤلاء مخلصين له فإنهم لا يستحقون أن تطردهم، بل يستحقون أن تقربهم وتتخذهم خلصاءك وأصفياءك.
وقوله: (ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء) هو كقول نوح عليه السلام في الذين قالوا: ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ [الشعراء: ١١١ - ١١٣]، أي: إنما حسابهم على الله عز وجل، وليس عليَّ من حسابهم من شيء، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء.
قال العلامة أبو السعود: الجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه تقريراً له ودفعاً لما عسى أن يتوهم كونه مسوغاً لطردهم من أقاويل الصاعرين في دينهم، كدأب قوم نوح حيث قالوا: ﴿مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ [هود: ٢٧].
أي أنهم يذمون المؤمنين والمستضعفين والفقراء والمساكين من أهل الإيمان بقولهم: (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أرذالنا) أي: فقراؤنا وضعفاؤنا ومساكيننا.
يقصدون أن يصفوهم بأنهم أناس سذج، وأنهم بمجرد أن سمعوا كلامك انقادوا لك، دون أن يحللوا، ودون أن يتعمقوا في الكلام.
والإنسان إذا بدا له الحق فانقاد له بسرعة فهذا مما يمدح به؛ لأنه إذا بان الحق كالشمس في رابعة النهار فإنه لا ينبغي أن يتردد الإنسان في قبوله والانقياد له، فهذا مما يمدح به الإنسان ولا يذم به.
فالمقصود: ما عليك شيء من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطنة حتى تتصدى له وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام، وإنما وظيفتك -حسبما هو شأن منصب النبوة- اعتبار ظواهر الأعمال، وإجراء الأحكام على موجبها، وأما بواطن الأمور فحسابها على العليم بذات الصدور، كقوله تعالى: ﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي﴾ [الشعراء: ١١٣].
وقوله تعالى: (ومَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ذكر الله هذا مع أن الجواب قد تمَّ بما قبله، أي: قوله تبارك وتعالى: ((وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)) لكن أضاف عز وجل قوله: ﴿ومَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٥٢] للمبالغة في بيان انتفاء كون حسابهم عليه ﷺ بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلاً، وهو انتفاء كون حسابه عليه السلام عليهم، على طريقة قوله تعالى: ﴿لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٤].
وفسر بعض المفسرين الحساب هنا بمعنى الرزق، فقوله: (ما عليك من حسابهم من شيء) أي: من رزقهم.
وهكذا قوله: (وما من حسابك عليهم من شيء).
وقدم خطابه ﷺ في الموضعين تشريفاً له صلى الله عليه وسلم، وكما نلاحظ هنا في الآية الكريمة فإن الله سبحانه وتعالى قدم ذكر النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (ما عليك من حسابهم) فذكر ضمير الرسول عليه السلام أولاً تشريفاً له صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (وما من حسابك عليهم من شيء)، وفي غير القرآن يمكن أن نقول: ما عليك من حسابهم من شيء، وما عليهم من حسابك من شيء.
لكن مراعاة لهذا الأمر -وهو تشريف النبي ﷺ بتقديم ذكره- قال تعالى في الأولى: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِن