تفسير قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد أباؤنا فانتظروا إني معكم من المنتظرين)
ثم أخبر تعالى عن تمرد عاد وطغيانهم على هود عليه السلام بقوله سبحانه وتعالى: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾ [الأعراف: ٧٠ - ٧١].
((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ)) أي: لنخصه بالعبادة.
((وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا)) يعني: من العذاب المدلول عليه بقوله تعالى: ((أَفَلا تَتَّقُونَ)) لأنه كان يتوعدهم: فهنا قالوا: ((فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا))، والذي تأمرنا بأن نتقيه من عذاب الله.
((إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)) يعني: في الإخبار بنزول العذاب.
((قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ)) أي: عذاب.
والرجس بالسين والرجز بالزاي بمعنىً، حتى قيل: إن أحدهما مبدل من الآخر، كالأسد والأزد، وأصل معنى الرجس أو الرجز: الاضطراب، يقال: رجست السماء يعني: رعدت رعداً شديداً وتمخضت، وهم في مرجوسة من أمرهم يعني: في اختلاط والتباس.
ثم شاع استعمال الرجس أو الرجز في العذاب؛ لأن العذاب إذا حل بقوم اضطربوا وماتوا.
وادعى بعضهم أن الرجس بمعنى العذاب مجاز؛ لأنه حقيقته في الشيء القذر فاستعير لجزائهم، وظاهر اللغة أنه حقيقة وليس بمجاز، ووجه التعبير بالمضي عما سيقع: تنزيل المتوقع كالواقع، أي: كأنه قد وقع بالفعل وصار يخبر عنه بصيغة الماضي، كما في قوله تبارك وتعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل: ١].
((وغضب)) أي: سخط؛ لإشراككم معه من هو في غاية النقص في أعلى كمالاته التي هي الإلهية.
((أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ)) [الأعراف: ٧١] يعني: في أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات، وليس لها حقيقة؛ لأنكم تسمونها آلهة، ومعنى الإلهية فيها معدوم ومحال وجوده، وهذا كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [العنكبوت: ٤٢] يعني: هي كالعدم.
وقال الشهاب: جعل الأسماء عبارة عن الأصنام الباطلة، فعبر عن الأصنام بكلمة أسماء، كما يقال لما لا يليق: ما هو إلا مجرد اسم، فالمعنى أتجادلونني في مسميات لها أسماء لا تليق بها، فتوجه الذم للتسمية الخالية عن المعنى، والضمير حينئذ راجع إلى أسماء.
((مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)) أي: حجة ودليل، يعني: لم يقم دليل وحجة على تسميتها آلهة؛ لأن المستحق للعبودية ليس إلا من أوجد الكل، وإنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى، إما بإنزال آية أو نصب حجة، وكلاهما مستحيل، فتحقق بطلان ما هم عليه.
((سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)) أي: لو كانت تستحق الإلهية وليست مجرد أسماء عارية عن الحقيقة؛ لأنزل الله آية أو دليلاً أو حجةً أو برهاناً يؤكد إلهيتها، فلما لم يقع شيء من ذلك، بل مستحيل أن يقع، تحقق بطلان ما أنتم عليه.
ودلت الآية على كساد التقليد حين ذمهم بسلوك طريقة آبائهم: ((سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ)) أي: تقليداً لآبائكم.
وتدل على أن المعارف مكتسبة.
وتدل على بطلان كل مذهب لا دليل عليه لقوله: ((مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)).
ويدل قوله: ((أَتُجَادِلُونَنِي)) على أن المبطل مذموم في جداله، والواجب عليه النظر ليعرف الحق، وأن يتأمل ويتحرى ويبحث عن الحق بتجرد وإنصاف، لا أن يجادل عن الباطل الذي هو عليه.
وبين تعالى أن منتهى حجتهم وسندهم أن الأصنام تسمى آلهة، من غير دليل يدل على تحقيق المسمى، وإسناد الإطلاق إلى من لا يؤبه بقوله إظهار لغاية جهالتهم وفرط غباوتهم.
((سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ)) هذا إشارة إلى غاية الجهالة وفرط الغباوة منهم وآبائهم.
((فَانتَظِرُوا)) أي: نزول العذاب الذي استعجلتموه وطلبتموه بقولكم: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾ [الأعراف: ٧٠] لأنه وضح الحق، وأنتم مصرون على العناد، فلم يبق إلا انتظار العذاب الذي تستعجلون، ولذلك قال لهم: ﴿فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾ [الأعراف: ٧١] أي: لما يحل بكم، فجاء منتظرهم بحيث لم ينجُ منهم بمجرى العادة أحد، وجعل هلاكهم بالريح التي تتقدم الأمطار لكفرهم برياح الإرسال.


الصفحة التالية
Icon